صلاح رشاد .. يكتب: وصية زبيدة والأمين لقائد الجيش
لم يكن علي بن عيسي بن ماهان شخصية هينة فهو شيخ من شيوخ الدولة العباسية، وكان أبوه عيسي من الذين أخلصوا لدعوة بني العباس وقدموا لها أجل الخدمات في بداية تأسيس الدولة.
وقلنا قبل ذلك إن عليا تولي خراسان لكنه أساء السيرة مما عرضه لغضب هارون الرشيد الذي عزله وصادر أمواله وسجنه ثم استرد كل شيء في عهد محمد الأمين، وأصبح الرجل الثاني في البلاط العباسي بعد الثعلب الماكر الفضل بن الربيع .
نعود إلي سؤال لماذا كان اختيار علي بن عيسي خاطئا ؟ .. لأنه كان شخصية بغيضة ومكروهة بالنسبة لأهل خراسان وقدومه علي رأس جيش كبير سيستفز الخراسانيين أكثر، وسيجعلهم يقاتلون بشراسة واستماتة خوفا من انتصار علي بن عيسي الذي سينتقم منهم بعد ذلك بكل تأكيد.
ونتساءل مجددا لماذا اختار الأمين هذا الرجل بالذات ؟ .. لا يجب أن نحمل الأمين أكثر مما يحتمل في ذلك الموقف بالذات، فعلي بن عيسي شخصية مؤثرة ومهمة في البلاط العباسي في ذلك الوقت، وقد يكون هو الذي طلب من الأمين ذلك، وألح عليه ربما لأن له ثأرا عند الخراسانيين الذين كانوا سبب إهانة الرشيد له وسجنه وعزله ومصادرة أمواله، وربما شعر الأمين أن علي بن عيسي بالحماس الذي عنده وبرغبته في الانتقام من الخراسانيين سيحاربهم باستماتة وسيكون النصر حليفه، كما أنه كان شيخا عركته الأحداث والتجارب.
سؤال ثالث يفرض نفسه: هل جواسيس المأمون والفضل بن سهل عند الأمين كان لهم دور في هذا الاختيار؟ .. أغلب الظن أنهم لم يكن لهم دور ولا نريد أن نبالغ في قدرات الفضل بن سهل وأنه يستطيع تطويع الأحداث لصالحه حتي داخل حزب الأمين، فاختيار علي بن عيسي كان متوقعا دون حاجة إلي ترشيح من جانب جواسيس المأمون، لأن عليا كما قلنا شخصية مقربة جدا من الأمين ويريد أن يرد الصفعة للخراسانيين وكل ما يمكن أن نقوله في هذا الشأن أن اختيار علي بن عيسي كان في مصلحة المأمون لا الأمين، لماذا ؟
لأنه ليس رجلا عاديا بالنسبة للخراسانيين وإنما له تاريخ أسود معهم وإذا انتصر عليهم سينكل بهم وسيحيل حياتهم إلي جحيم، وليس أمام الخراسانيين للنجاة من هذا المأزق سوي النصر ولن يتحقق لهم إلا بالقتال بكل قوة واستماتة.
وهذا يعني أن اختيار علي بن عيسي أشعل روح الحماس عند الخراسانيين، وهذه النقطة كانت مصدر قوة للمأمون ومصدر ضعف للأمين الذي لم يدر بذهنه أن هذا الجيش الجرار سينهزم، وربما ظن بعض رجالات الأمين أن الجيش سيكون في نزهة وسيأتي بالمأمون أسيرا يطلب الصفح من أخيه الخليفة.
وإذا نظرنا إلي وصية زبيدة أم الأمين ووصية ابنها الخليفة لقائد الجيش علي بن عيسي نجد أنها كانت تسير في هذا الإتجاه، وأن المعركة مضمونة النتائج.
ومع بدء المواجهات الحربية بين الأمين والمأمون كثرت الخطب والوصايا من الجانبين لإسداء النصائح ورفع المعنويات، لذلك فضلنا التوقف عند بعض الخطب التي وردت في كتاب “جمهرة خطب العرب في عصور العربية الزاهرة” لأحمد زكي صفوت.
بعد أن تجهز جيش الأمين وأتم استعداده للتحرك نحو خراسان ركب علي بن عيسي قائد الجيش ليستأذن أميرة البيت العباسي زُبَيدة والدة الأمين ويستمع إلي نصائحها، فقالت له:يا عليُّ، إن أمير المؤمنين، وإن كان ولدي، إليه تناهت شفقتي، وعليه تكامل حِذْري، فإني على عبد الله (المأمون) منعطفة مشفقة لما يحدث عليه من مكروه وأذى، وإنما ابني ملك نافس أخاه في سلطانه، فاعرف لعبد الله حق والده وأُخوَّته، ولا تجْبَهه بالكلام، فإنك لست مثله، ولا تقتسِره اقتسار العبيد، ولا تُرْهنه بقيد ولاغُلّ، ولا تمنع منه جارية ولا خادمًا، ولا تعنِّف عليه في السير ولا تساوه في المسير، ولا تركب قبله.
طبعا وصية زبيدة كانت توحي بأن النصر سهل ومضمون وأن عليا سيعود بالمأمون أسيرا ، والوصية فيها أيضا سمو انساني ورقي أخلاقي وترفع عن الدنايا فرغم أنها الحرب بين الأمين والمأمون إلا أن زبيدة لم تنس أن المأمون هو ابن زوجها واخو ابنها، وأنها هي التي ربته بعد أن ماتت أمه الجارية الفارسية مراجل وهو طفل فكانت مشفقة عليه وترفض أن يمسه علي بسوء أو ينال من قدره وشأنه، وهي لفتة عظيمة من زبيدة بنت جعفر أميرة أميرات البيت العباسي.
خرج علي بن عيسى بن ماهان من بغداد في7 من شعبان عام 195 هجريا وخرج معه الأمين يشيعه، ثم أوصاه قائلا:
امنع جندك من العبث بالرعية، والغارة على أهل القرى، وقطع الشجر، وانتهاك النساء، وولِّ الريَّ يحيى بن علي، (ابن قائد الجيش )و اضمم إليه جندًا كثيفًا، ومُرْه ليدفع إلى جنده أرزاقهم مما يجيء من خراجها، وولِّ كل كُورة (منطقة ريفية) ترحل عنها رجلًا من أصحابك، ومن خرج إليك من جند أهل خراسان ووجوهها فأظهر إكرامه، وأحسن جائزته، ولا تعاقب أخًا بأخيه، وضع عن أهل خُرسان ربع الخراج، ولا تأمن أحدًا رماك بسهم، أو طعن في أصحابك برمح، ولا تأذن لعبد الله المأمون في المُقام أكثر من ثلاثة أيام، من اليوم الذي تظهر فيه عليه، فإذا أشخصته، فليكن مع أوثق أصحابك عندك، فإن غرَّه الشيطان فناصبك، فاحرص علي أن تأسره أسرًا، وإن هرب منك إلى بعض كُور خراسان، فتَوَلَّ إليه المسير بنفسك.
أفَهِمْتَ كل ما أوصيك به؟ “.
قال: نعم، أصلح الله أمير المؤمنين،
قال: سر على بركة الله وعونه
وصية الأمين تدل علي أنه رجل دولة وليس تافها أو أحمق لكن مشكلة الأمين كانت في ثلاثة أشياء: حبه للهو والترف حتي في أحلك الظروف، وتعجله وضعف إرادته، وحاشية السوء التي أوردته المهالك.
وصية الأمين أيضا كانت توحي بأن النصر محسوم وأن خراسان ستصبح في قبضة علي بن عيسي وسيولي رجاله علي ولاياتها وسيعود بعبد الله المأمون أسيرا.
لكنها لم تكن نزهة بل كانت معركة حقيقية،حدثت فيها تقلبات ومفاجآت نكشف النقاب عنها في الحلقة المقبلة إن شاء الله .