صلاح رشاد .. يكتب: هرثمة يحاول انقاذ الأمين من قبضة طاهر
برر طاهر بن الحسين رفضه لخروج الأمين الي قائد الجيش الثاني هرثمة بن أعين قائلا: الأمين فى الجانب الذي أنا فيه وأنا أخرجته بالحرب والحصار حتّى طلب الأمان فلا أرضى أن يخرج إلى هرثمة دوني فيكون الفتح له.
فلمّا رأى هرثمة والقوّاد ذلك اجتمعوا فى منزل خزيمة بن خازم أحد القادة العباسيين الكبار، فصار إليهم طاهر فى خاصّة قوّاده وحضر محمد بن عيسى بن نهيك والسندي بن شاهك وأداروا الرأى بينهم، فأخبروا طاهرا أنّ الأمين لا يخرج إليه أبدا وأنّه إن لم يجب إلى ما سأل لم يؤمن أن يجرى فى أمره ما جرى مثله أيّام الحسين بن علىّ الذي خلع الأمين ثم كسب تعاطف الناس فحاربوا الحسين وردوا الأمين إلي الخلافة.
فأشار عليه القادة أن يخرج الأمين ببدنه إلى هرثمة إذ كان يأنس به ويثق بناحيته ويدفع الخاتم والقضيب والبردة، فلا تفسد هذا الأمر واغتنمه.. فأجاب طاهر إلى ذلك ورضى.
وكان خلفاء بني العباس ومن قبلهم بنو أمية يتمسكون بالخاتم والقضيب والبردة لأنها علي حد قول البعض من ميراث رسول الله صلي الله عليه وسلم، وبخاصة البردة ولها قصة شهيرة فقد كان الشاعر كعب بن زهير بن أبي سلمي ممن يهجون الإسلام، وعندما فتحت مكة نصحه كثيرون بأن يذهب إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم ليصفح عنه قبل أن يهدر دمه، فذهب ومدحه بقصيدته اللامية الشهيرة التي جاء فيها :
نبئت أن رسول الله أوعدني
والعفو عند رسول الله مأمول
مهلا هداك الذي أعطاك
نافلة القرآن فيها مواعيظ وتفصيل
إن الرسول لنور يستضاء به
مهند من سيوف الله مسلول
فأعجب بها رسول الله صلي الله عليه وسلم وألقي عليه بردته (عباءته) وكانت أعظم هدية لكعب وأبنائه من بعده، ثم اشتراها معاوية رضي الله عنه من أبناء كعب بـ 40 ألف درهم، وظل الخلفاء يتناقلونها فيما بينهم تبركا بشيء ارتداه رسول الله صلي الله عليه وسلم .
وقال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى: (توارث بنو العباس هذه البردة خلفاً عن سلف، وكان الخليفة يلبسها يوم العيد على كتفيه، ويأخذ القضيب المنسوب إليه صلوات الله وسلامه عليه في إحدى يديه، فيخرج وعليه من السكينة والوقار ما يصدع به القلوب، ويبهر به الأبصار) .
نعود إلي الأمين الذي خرج إلى صحن القصر وقعد على كرسىّ، وجاءه خادم فقال: يا سيّدى، أبو حاتم يقرأ عليك السلام- يعنى هرثمة- ويقول لك: يا سيّدى وافيت للميعاد لحملك، ولكنّى رأيت ألّا تخرج الليلة فإنّى قد رأيت- فى دجلة وعلى الشطّ- أمراً قد رابنى وأخاف أن أغلب فتؤخذ من يدي أو تذهب نفسك ونفسي، ولكن أقم بمكانك حتّى أرجع فاستعدّ، ثمّ آتيك غدا فأخرجك، فإن حوربت دونك حاربت ومعى عدّتى.
فقال له الأمين: إرجع إليه فقل له: لا تبرح، فإنّى خارج إليك الساعة لا محالة، فقد تفرّق عنّى الناس ومن على بابى من الموالي والحرس، ولا آمن إن أصبحت وانتهى خبري إلى طاهر أن يدخل علىّ فيأخذنى.» ثمّ دعا بفرس كان يسمّيه: الزهيرى، ودعا بابنيه فضمّهما إليه وشمّهما وقال:
– أستودعكما الله. ودمعت عيناه، ومسح دموعه بكمّه (ماكان أغناك عن كل ذلك يا ابن الرشيد .. كنت سيدا وملكا متوجا .. فغدرت ونكثت العهد فانهزمت وأصبحت مطاردا مشردا)
ثمّ قام الأمين فوثب على الفرس وخرجنا بين يديه إلى باب القصر حتّى ركبنا دوابّنا وبين يديه شمعة واحدة حتّى خرجنا إلى المشرعة، فإذا حرّاقة هرثمة، فنزل فيها (الحراقة سفينة حربية فيها مرامي للنيران لتقذف بها العدو ).
ورجعنا إلى المدينة فدخلناها وأمرنا بالباب فأغلق وصعدنا القبّة التي على الباب نتسمّع الصوت.
فذكر أحمد بن سلام صاحب المظالم أنّه قال: كنت مع هرثمة و قوّاده فى السفينة، فلمّا دخل الأمين قمنا على أرجلنا إعظاما له وجثا هرثمة على ركبتيه وقال:
يا سيّدى لا أقدر على القيام لإصابتي بالنقرس، ثمّ احتضنه وصيّره فى حجره وجعل يقبّل يديه ورجليه وعينيه ويقول:
سيّدى ومولاي وابن سيّدى ومولاي.
(كان هرثمة شديد الوفاء لهارون الرشيد وأبنائه)
و أمر هرثمة بالحرّاقة أن تتحرك، ففوجئنا بأصحاب طاهر فى الزوارق وبعضهم ينقب الحرّاقة والبعض الآخر يرمى بالنشّاب فنقبت الحرّاقة سريعا ودخلها الماء وغرقت، وسقط هرثمة إلى الماء وسقطنا كلّنا فتعلّق الملّاح بشعر هرثمة فأخرجه، وخرج كلّ واحد منّا لقربنا من الشطّ، ورأيت الأمين فى تلك الحال وقد شقّ عنه ثيابه ورمى بنفسه إلى الماء، فأمّا أنا فتعلّق بى رجل من أصحاب طاهر ومضى بى إلى رجل قاعد على كرسىّ على شطّ دجلة فقال له بالفارسية:
– هذا رجل أخرج من الماء ممّن غرق من أهل الحرّاقة.» فقال لى:
ممّن أنت؟» قلت: «من أصحاب هرثمة أنا أحمد بن سلام صاحب المظالم ومولى أمير المؤمنين.» قال: «كذبت فاصدقني.» قلت: «قد صدقتك.» قال: «فما فعل المخلوع يقصد الأمين ؟» قلت: «رأيته حين شقّ عنه ثيابه وقذف بنفسه فى الماء.» قال: «قدّموا دابّتى.» فقدّموا دابّته فركب وجعل فى عنقي حبل ثم قال لرجل بجواره :انزل فخذ رأسه، قلت:جعلت فداك، ولم تقتلني وأنا رجل لله علىّ نعمة وأنا أفدى نفسي بعشرة آلاف درهم.» فلمّا سمع ذكر العشرة آلاف قال للرجل الذي أمره بقتلى: أمسك، ثمّ قال:
– وكيف لى بالعشرة آلاف؟» قلت: «تحبسني عندك حتّى نصبح، ثمّ تدفع إلىّ رسولا أرسله إلى وكيلي فى منزلي، فإن لم يأتك بالعشرة آلاف فاضرب عنقي قال: قد أنصفت.
وأمر بحملي ، فمضى بى إلى دار صاحبه وأمر غلمانه أن يحتفظوا بى، وتفهّم منّى خبر الأمين ووقوعه إلى الماء ومضى إلى طاهر ليخبره وقعدت فى البيت وصيّروا فيه سراجا وتوثّقوا من الباب وقعدوا يتحدّثون.
فلمّا ذهب من الليل ساعة إذا نحن بحركة الخيل، فدقّوا الباب ففتح لهم وأدخل إلىّ رجل عريان عليه سراويل وعمامة متلثّم بها وعلى كتفيه خرقة بالية، فصيّروه معى وتقدّموا إلى من فى الدار بحفظه فلمّا استقرّ فى البيت حسر العمامة عن وجهه، فإذا هو محمد الأمين فبكيت واسترجعت فيما بيني وبين نفسي.
وهكذا أصبح الأمين أسيرا بين يدي رجال طاهر، فماذا حدث له بعد ذلك ؟
نجيب في الحلقة المقبلة إن شاء الله .