محمد سلطان يقرأ في «أهداب الصبح» ويبوح: «غصة بالحلق .. شهقة بالروح»
ليست مجرد عمل أدبي وقع بدربي والسلام، بل منتج روائي تناول حزمة قضايا هي الأهم والأكثر جرأة ولا أظنها بعيدة عن واقعنا العربي، قرأتها ولسان حالي يقول ليست كرة القدم وحدها من توحد الشعوب، الأدب العربي كان له دوره الأعظم في إنجاز هذه المهمة الأصعب، فإن كانت ثمة أعمالاً أدبيًة تكفلت ذلك، وسيما لعظام الرواية العربية ممن تعلمنا من أدبهم وأعمالهم التي تركت أثرها النفسي والمادي بين جموع الجماهير العريضة،
فلا يمكننا أن نتجاهل أو نغفل “أهداب الصبح” للكاتبة وفاء خالد، من هذه المهمة، لما فيها من جدية في تناول الموضوعات والهموم التي أكلت وشربت وترعرعت في بيوتنا العربية، وكأنها حالة واحدة متشابهة في القطر العربي أجمع.
من أهم القضايا التي لعبت عليها الكاتبة بمصارحة كاشفة وصادمة، وكأنها صرخة في وجه المحتمع والعادات والتقاليد، بل يعتبر الهم الأوحد، تصادم الأحلام مع الأوطان، أو بالأحرى كما قال يوسف بطل الرواية “حينما تخوننا الأوطان”، أنفق في سبيلها كل غالٍ ونفيس، لكن في النهاية تصادم يوسف بأن استهان بحلمه، وهان عليه، نعم هو حال يوسف، وتلك “النسرين” أبهة العمل ودرته، الشخصية المحورية والأصيلة في النص والتي عشقناها جميعًا، وكانت الحلم، ومن منا لم يقابلها في حياته، ومن منا لم يصطدم بخيباتٍ واضطر مرغمًا أن يصطبر عليها لأجل هذه “النسرينة” التي نُعدها الرمز الحقيقي للحلم الضائع، “حلم يوسف” حتى وإن جاء تحقيقه في نهاية العمل حتميًا ومؤكدًا، وكأن الكاتبة أبت أن تخرجنا من النص مكسورين الخاطر، وكان عدم تحقيقه والمستحيل أمر أكيد..
من منا لم يتعثر في لقمة العيش واضطر مرغمًا للعمل في مهنٍ وحرفٍ لا تمت لشهادة تخرجه بصلةٍ من أجل إثبات ذاته وتحمل مسئولياته، والوصول إلى هدفه المنشود، ليتحقق حلمه في النهاية والظفر “بنسرينته”!
أيضا تناولت الرواية قدر عظيم ومهيب من الحالمين المحبطين والبائسين، الذين رأوا قوارب أحلامهم تتشظى وتتهدم على شواطئ أوطانهم دون رحمة من الجماهير الغفيرة التي اكتفت بالمشاهدة، بل كان منهم من أمسك بمعول الهدم ساعد في هذا الضياع!
“زهور” العمة، و”سوسن” شقيقة نسرين، وهما الصورتان الحقيقيتان للسيدة “القرشانة”، فكانتا رمزًا أيضًا لعنصر القهر المستفز، لدرجة لو كان بإمكانك التحصل عليهما لأبرحتهما ضربًا وانتقامًا لبطلي الرواية “يوسف ونسرين”، وهنا إشادة بدور الكاتبة في إحكام قبضتها على الأدوار والشخصيات من دون أن يعلو لها صوتًا أو تحدث ضجيجًا أو رأيًا شخصيًا، بل كانت قريبة جدًا من الجميع، أجادت اللعب معهم دون التحيز لأحد على حساب الآخر، أو تشعرك بوجودها داخل النص، كلٌ قام بمهمته على أكمل وجه، ولا سيما بعض عناصر الرواية التي يدهشك دورها فتعتقد للوهلة الأولى بغير أهميتها، أو دسها في وقت معين من أجل إكمال حالة الديكور السردي، إلا أنك تنصدم في مدى أهميتها وكأنها عنصرًا أساسيًا وجوهريًا لا غنى عنه داخل النص، لم تأت به الكاتبة عبثًا، ما يدل على منطقية الأحداث والأدوار أولاً بأول..
كم كبير من الإحباطات والصدامات، وكم أكبر من المشاعر الواقعية مجسدة برومانسيٍة عنيفٍة قد تهزك هزًا بشكل ٍأعنف حينما تكتشف أنك عاصرت وعايشت الأحداث برمتها، بل أنت البطل وحلمه، ونسرينته المفعمة بالحكمة والصبر، وهي الأنثى الاستثناء التي تمناها الجميع، كما لا يمكن أن ينتهى الأمر دون أن نعرج على سلم “منى” صديقتها وقصتها الأكثر إرباكًا وتعقيدًا وحزنًا وإحباطًا، في رمز “للإستغلال”، فكانت بمثابة فرصة لشخصٍ انتهازيٍ جعل منها قنطرة عبوره إلى حياته الطامعة، فكانت هي ونسرين خطين متوازيين ومتساويين تمامًا بطول النص، لا يمكنك تجاهل إحداهما على حساب الأخرى!
نعم الرواية مليئة بالرموز التي أعتقد إن قصدتها الكاتبة أو لم تقصدها فهي بالأخير حقائق عشناها جميعا، أدمعتنا، وأحرقتنا، منا من كانت له أحلامًا محققًة أفرحته فجاءه العيد واكتمل، على حد قول نسرين، تلك العظيمة التي لا أعتبرها إلا هدية القارئ من الكاتبة، فأهدته معها أهداب الصبح بعد ظلام طال في حر صيفه، وبرودة شتائه..
جاءت أهداب الصبح بلغة سهلة ومباشرة، بنوع من الكتابة الناعمة الرشيقة والرومانسية، تعيدك إلى رشاقة الأولين ممن احترمنا أدبهم وكتابتهم في زمن الكتابة الأجمل، فخلقت عالمًا من المتعة القرائية، تجعلك تلتهمها دفقة واحدة، ولا يؤخرها عنك انشغالًا؛ رغبة في مواصلة الاستمتاع بالحدث الذي غلفه التشويق إلى حدٍ بعيد، متعة بما فيها من سرد وحوار، متعة بما فيها من عذابات وتصادمات، متعة بما جاءت فيها من أحلام ريضة ومنكسرة، ومتعة بما فيها من تناول قضايا الهجرة والبحر، الموت والحب، الفناء والبقاء، الرحيل والعودة، النور والإظلام، كلها شكلت عدة لوحات تشابكت وتداخلت بالنهاية فشكلت التابلو الكامل، لو تظنها ناقصة لشئ فسريعًا ما تسعفك الكاتبة بإكمالها، بكل تأكيد من أجمل الأعمال الروائية في الأدب العربي الحديث، والجزائري بشكل خاص؛ لما فيها من حياة متكاملة بمشاعرها الحقيقية ومعاناتها، التي تجبرك على مواصلتها حتى النهاية، ولا تشعر بنفسك إلا ببللٍ ساقعٍ على وجنتيك، وغصةٍ بالحلقِ، وشهقةٍ بالروحِ..
“أهداب الصبح” العمل الروائي الأبرز للكاتبة وفاء خالد، وهي أديبة جزائرية لها عدة أعمال أدبية وروائية ودارسة للأدب الإنجليزي، إضافة لكونها معلمة للغة الإنجليزية بوزارة التربية والتعليم بدولة الجزائر.