نص موضوع خطبة الجمعة غدًا.. مظاهر عنايةِ الإسلامِ بالطفولة

أعلنت وزارة الأوقاف نص موضوع خطبة الجمعة 26 ديسمبر 2025، الموافق 6 رجب 1447 هـ، وهي بعنوان «مظاهرُ عنايةِ الإسلامِ بالطفولة» ، وكشفت الوزارة عن موضوع الخطبة الثانية والتي تأتي بعنوان «حماية الأطفال من الألعاب الإلكترونية» ضمن مبادرة صحح مفاهيمك.
نص موضوع خطبة الجمعة
الحمد للهِ الّذي جَعَلَ الرَّحمةَ شِعارَ هذا الدِّينِ، وجَعَلَ الإحسانَ إلى الضعفاء عنوانَ الصِّدقِ مع ربِّ العالمينَ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ سيّدَنا محمّدًا عبدُه ورسولُه، نبيُّ الرَّحمةِ، وإمامُ الهُدى، صلَّى اللهُ عليه وعلى آله وصحبِه، ومن سارَ على نهجِه إلى يومِ الدِّينِ. أمّا بعدُ.
أيها المسلمونَ: حديثُنا اليومَ عن مظاهرِ عنايةِ الإسلامِ بالطفولةِ، لنرى كيف صنعَ هذا الدِّينُ حضارةً تبدأُ من المهدِ، وكيف أقامَ بناءَ الإنسانِ قبل أن يقفَ على قدميه، في ثلاثِ قضايا كُبرى:
عنايةٌ قبل الولادةِ، ثم عنايةٌ بعد الولادةِ، ثم حمايةٌ من الضياعِ والانتهاكِ… ثم نختمُ بخُطبةٍ ثانيةٍ تحذّرُ من آفةٍ حديثةٍ تسرقُ أعمارَ أبنائنا: الألعابُ الإلكترونيةُ حين تصيرُ إدمانًا وخرابًا.
يا عبادَ اللهِ: أعجبُ ما في الإسلامِ أنّه لا ينتظرُ مجيءَ الطفلِ إلى الدنيا ثم يبدأُ في التفكيرِ في حقوقِه، بل يبدأُ قبلَ أن تُنفخَ الروحُ، وقبلَ أن تُسمَعَ الصرخةُ الأولى، وقبلَ أن تُقطَعَ السُّرّةُ!
يبدأُ الإسلامُ من نقطةٍ يَغفُلُ عنها كثيرٌ من الناسِ: نقطةُ بناءِ البيتِ الذي سيولدُ فيه الطفلُ، لأن الطفلَ لا ينبتُ في فراغٍ، بل ينبتُ في “مناخٍ”، فإن كان المناخُ دينًا وأمانًا واستقامةً، خرجَ الطفلُ على الفطرةِ سالمًا قويًّا، وإن كان المناخُ فسادًا وشجارًا وتفريطًا، خرجَ الطفلُ يحملُ من الكسورِ ما لا يراه الناسُ، ثم يتساءلون: لماذا انحرفَ؟ ومن هنا يجيءُ التوجيهُ النبويُّ الحاسمُ في اختيارِ الأصلِ الذي تُغرسُ فيه الذريةُ: “تُنْكَحُ المَرْأَةُ لأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَلِجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ“. البخاري 5090، ومسلم 1466.
ثم يأتي الإسلامُ ليضعَ للبيتِ قاعدةَ “المسؤوليةِ” قبل كل شيءٍ، فيجعلُ الأبَ راعيًا لا متفرّجًا، ويجعلُ الأمَّ راعيةً لا هامشًا، ويجعلُ الجميعَ تحت سؤالِ اللهِ: “كلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيتِهِ فالأميرُ الذي على الناسِ راعٍ عليهم وهو مسؤولٌ عنهم والرجلُ راعٍ على أهلِ بيتِهِ وهو مسؤولٌ عنهم والمرأةُ راعيةٌ على بيتِ بعلها وولدِهِ وهي مسؤولةٌ عنهم وعبدُ الرجلِ راعٍ على بيتِ سيدِهِ وهو مسؤولٌ عنهُ ألا فكلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيتِهِ“. البخاري 2554. ومسلم 1829.
فأيُّ معنى للإنجابِ بلا رعايةٍ؟ وأيُّ بركةٍ لولدٍ يُلقى في الحياةِ بلا توجيهٍ، ثم إذا أخطأَ صرخنا فيه، وإذا انحرفَ لعنّاه، وإذا ضاعَ قلنا: “هذا زمنٌ فاسدٌ”! بل الفسادُ يبدأُ حين ينامُ الراعي عن رعيتِه.
أيها المؤمنونَ: ومن عنايةِ الإسلامِ قبلَ الولادةِ: صيانةُ حقِّ الحياةِ، فإن الشريعةَ حين عظّمت النفسَ الإنسانيةَ لم تُفرّقْ بين قويٍّ وضعيفٍ في أصلِ الكرامةِ، والجنينُ ضعيفٌ لا يملكُ دفاعًا، فكان حقُّه أعظمَ في وجوبِ الحفظِ، وأوجبَ في بابِ الرعايةِ.
وهذا المعنى القرآنيُّ حين يُقرأُ قراءةً موضوعيةً يُفهمُ منه أنّ الاعتداءَ على النفسِ ليس جريمةً فرديةً، بل هو هدمٌ لحرمةِ المجتمعِ كلِّه، لأن المجتمعَ الذي يُهوّن قتلَ الضعيفِ سيهوّن ظلمَ القويِّ بعد ذلك.
ثم تأتي العنايةُ في جانبٍ قد يظنُّه بعضُ الناسِ “مادّةً” لا “ديانةً”: النفقةُ والرعايةُ المعيشيةُ: فالإسلامُ لا يريدُ طفولةً جائعةً ثم يطالبُها بالطاعةِ والهدوءِ والسمتِ! ولا يريدُ طفلًا محرومًا ثم يعاتبه على السرقةِ والكذبِ والانفجارِ! بل يقطعُ الطريقَ من البدايةِ: “كَفَى بالمَرْءِ إثْمًا أَنْ يَحْبِسَ عَمَّنْ يَمْلِكُ قُوتَهُ”. مسلم 996.
إنه إثمٌ يُسجَّلُ لا لأن الطفلَ “قريبٌ” فقط، بل لأن الطفلَ “أمانةٌ”، فالتضييعُ هنا خيانةٌ مركّبةٌ: خيانةٌ للولدِ، وخيانةٌ للبيتِ، وخيانةٌ للمجتمعِ الذي سيحصدُ نتائجَ هذا الضياعِ يومًا ما.
وإذا استقرت هذه القاعدةُ — قاعدةُ الرعايةِ — فهمنا أن الإسلامَ وهو يُوجّهُ الرجلَ إلى الاعتدالِ في عبادتِه لا يفعلُ ذلك ترفًا، بل لأنه يريدُ بيتًا متوازنًا لا يُحرقُه تشدّدُ الأبِ ولا تُطفئُه غفلتُه، ومن هنا قال سلمان الفارسي رضيَ اللهُ عنه: “إنَّ لنَفْسِكَ عليكَ حقًّا، ولِرَبِّكَ عليكَ حقًّا، ولِضَيْفِكَ عليكَ حقًّا، وإنَّ لِأهلِكَ عليكَ حقًّا، فأَعْطِ كلَّ ذي حقٍّ حقَّهُ، فأَتَيَا النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فذكَرَا ذلكَ، فقال النبي صلي الله عليه وسلم: صَدَقَ سَلمانُ“. البخاري 1968.
فالتربيةُ الحقّةُ تبدأُ من نفسِ المربّي: توازنٌ، وحضورٌ، وقدرةٌ على الاحتواءِ، لا هروبٌ من البيتِ باسمِ العبادةِ، ولا هروبٌ من العبادةِ باسمِ الانشغالِ.
عبادَ اللهِ: إن العنايةَ بالطفلِ قبل ولادتِه ليست “أفكارًا نظريةً”، بل هي منهجٌ: بيتٌ يُبنى على الدينِ، ومسؤوليةٌ تُستشعرُ، وحقٌّ للحياةِ يُصانُ، ونفقةٌ تُؤدّى، ورحمةٌ تُغرسُ… فإذا وُلد الطفلُ وُلد على أرضٍ ممهدةٍ للإيمانِ لا على أنقاضٍ من الفوضى.
وصورةٌ من صورِ هذا المعنى أن الإسلامَ يجعلُ الرعايةَ “ديانةً” لا “مزاجًا”: فليس المطلوبُ أن نُحسنَ إلى الأطفالِ حين تطيبُ نفوسُنا فقط، بل المطلوبُ أن نُحسنَ إليهم لأنّ اللهَ أمرَنا بذلك، ولأنّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جعلَ ذلك شِعارَ أهلِ الإيمانِ: “أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كان يُقبِّلُ الحَسَنَ بنَ علِيٍّ، فقال الأقرَعُ بنُ حابِسٍ: إنَّ لي عَشَرةً مِن الوَلَدِ، ما قبَّلتُ منهم أحَدًا. فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: مَن لا يَرحَمْ، لا يُرحَمْ“. البخاري 5997. ومسلم 2318.
فإذا كانت العنايةُ قد بدأت قبلَ أن يولدَ الطفلُ، فإنها بعدَ الولادةِ تتجلى في رحمةٍ نبويةٍ عمليةٍ، وفي حقوقٍ واضحةٍ، وفي تربيةٍ تُنبتُ الأدبَ بلا تحطيمٍ… وهذا ما ندخلُ إليه في العنصرِ الثاني بإذنِ اللهِ.
يا عبادَ اللهِ، إذا كان الإسلامُ قد صانَ الطفلَ قبلَ أن يولدَ، فإنَّه بعدَ الولادةِ يحتضنه بمنهجٍ كاملٍ، لا يتركُه للغريزةِ، ولا يسلّمه للعاداتِ، ولا يُلقيه في مهبِّ التجاربِ، بل يرعاه رحمةً وتربيةً وتعليمًا وتأديبًا.
أوّلُ ما يَلقاه الطفلُ في الإسلامِ ليس العصا، ولا الصراخ، ولا الإهمال، بل الرحمة، قال رسولُ اللهِ ﷺ: “مَن لا يَرحَمْ لا يُرحَمْ”. البخاري (5997)، ومسلم (2318).
وقال ﷺ في بيان معيار الانتماءِ الحقيقيِّ لمنهجه: “ليسَ مِنَّا مَن لم يَرحَمْ صغيرَنا، ولم يوقِّرْ كبيرَنا“. الترمذي 1919، صحيح، الرحمةُ هنا ليست عاطفةً زائدةً، بل ركنٌ من أركان التربية، لأن الطفلَ الذي ينشأ على القسوةِ إمّا أن ينكسرَ فيتحوّلَ خوفًا وضعفًا، أو يتمرّدَ فيتحوّلَ عنفًا وعدوانًا.
ومن أعظم مشاهد السيرة التي تُظهر مركزية الطفل في المنهج النبويِّ: ما ثبت عن أبي قتادةَ الأنصاريِّ رضي الله عنه: “أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ كان يصلّي وهو حاملٌ أُمامةَ بنتَ زينبَ بنتِ رسولِ اللهِ ﷺ، فإذا سجدَ وضعَها، وإذا قامَ حملَها”. البخاري (516، 5996)، ومسلم (543).
من أدقِّ ما في التربيةِ: الاعترافُ بمشاعر الطفل وعدم السخريةِ منها، قال أنسُ بنُ مالكٍ رضي الله عنه: “كانَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا، وكانَ لي أخٌ يُقَالُ له: أبو عُمَيْرٍ -قالَ: أحْسِبُهُ- فَطِيمًا، وكانَ إذَا جَاءَ قالَ: يا أبَا عُمَيْرٍ، ما فَعَلَ النُّغَيْرُ؟ نُغَرٌ كانَ يَلْعَبُ به، فَرُبَّما حَضَرَ الصَّلَاةَ وهو في بَيْتِنَا، فَيَأْمُرُ بالبِسَاطِ الذي تَحْتَهُ فيُكْنَسُ ويُنْضَحُ، ثُمَّ يَقُومُ ونَقُومُ خَلْفَهُ، فيُصَلِّي بنَا” متفقٌ عليه (البخاري 6203، مسلم 2150).
ومن أعظم مظاهر العنايةِ: أن يُعلَّم الطفلُ الأدبَ بلينٍ لا بعنفٍ، قال عمرُ بنُ أبي سلمةَ رضي الله عنه: “كنتُ غلامًا في حِجرِ رسولِ اللهِ عليه السَّلامُ وكانت يدي تطيشُ في الصحفة فقال لي النبيُّ عليه السَّلامُ يا غلامُ سمِّ اللهَ وكُلْ بيمينِك وكُلْ مما يليك“. (البخاري 5376، مسلم 2022).
لم يجعل الإسلامُ الطفلَ مكلَّفًا قبل أوانهِ، لكنه أعدَّه للتكليفِ بالتعويدِ، قال رسولُ اللهِ ﷺ: “علِّموا أولادَكُمُ الصلاةَ إذا بلَغُوا سبعًا، واضربوهم عليها إذا بلغوا عشْرًا، وفرِّقُوا بينهم في المضاجِعِ“. أبو داود (495)، وأحمد، صحيح.
– الأمرُ عند السبعِ: تعويدٌ. المتابعةُ إلى العشرِ: تربيةٌ. الحزمُ عند العشرِ: حمايةٌ لا انتقامٌ. هذا هو المنهج المتوازن بين الرحمةِ والانضباطِ.
كثيرٌ من الجرائمِ تبدأُ من بيتٍ أهملَ طفله، وكثيرٌ من الانحرافاتِ خرجت من “فراغٍ عاطفيٍّ” قبل أن تخرج من فقرٍ مادّيٍّ.
ومن أبلغ مظاهر العنايةِ بالطفولةِ: أن رحمةَ النبيِّ ﷺ لم تتوقّف عند أطفال المسلمين، ثبت في الصحيح عن أنسٍ رضي الله عنه: “أنَّ غلامًا يهوديًّا كان يخدُمُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فمرِض فأتاه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يعودُه فقال له النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (أسلِمْ) فنظر إلى أبيه وهو جالسٌ عندَ رأسِه فقال له أطِعْ أبا القاسمِ قال: فأسلَم قال: فخرَج النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن عندِه وهو يقولُ: (الحمدُ للهِ الَّذي أنقَذه مِن النَّارِ). البخاري (1356).
يا عبادَ اللهِ، إذا كانت الرحمةُ هي الأساسَ، والتربيةُ هي الطريقَ، فإن الحماية هي السورُ الذي يمنعُ الانهيارَ بعد البناءِ ، فالطفلُ لا يُفسِدُ نفسَه بنفسِه، وإنما يُفسَدُ حين تُرفَعُ عنه الحمايةُ، ويُسلَّمُ للتيه، وتُفتحُ عليه أبوابُ الفتنةِ دون رقيبٍ ولا حكيمٍ.






