كلمة وزير الأوقاف كاملة أمام الندوة العالمية لدار الإفتاء

ننشر كلمة وزير الأوقاف كاملة في الندوة العالمية الثانية لدار الإفتاء المصرية بعنوان «الفتوى وقضايا الواقع الإنساني: نحو اجتهاد رشيد يواكب التحديات المعاصرة»
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين، ثم أما بعد:
ففي هذا اليوم الميمون المبارك، يشرفني أن أكون بينكم نائبًا عن دولة رئيس الوزراء الموقر، الدكتور المهندس مصطفى مدبولي، حاملًا إلى حضراتكم تحياته الخالصة، وترحيبه الحار بكم في أرض الكنانة مصر، ومبلّغًا رجاءه الصادق إلى المولى جل جلاله أن يجعل من هذا الملتقى بابًا واسعًا للتقارب، والنظر، والمدارسة، والفكر المشترك، في كل ما يعود بالخير والنفع على بلادنا وأوطاننا جميعًا.
وإن هذه الندوة الكبرى تنعقد برعاية سامية من فخامة الرئيس عبد الفتاح السيسي (حفظه الله)، وهو ما يعكس أسمى درجات الترحيب من الدولة المصرية بضيوف مصر الكرام. فمرحبًا وأهلًا وسهلًا بكم، حللتم أهلًا ونزلتم سهلًا،
يا ضيفَنا لو جئتنا لوجدتنا
نحن الضيوفَ وأنت ربُّ المنزلِ.
وبعد هذا الترحيب، أتوجه بالتحية إلى سماحة الأستاذ الدكتور نظير محمد عياد – مفتي الجمهورية ورئيس الأمانة العامة لدور وهيئات الفتوى في العالم، وإلى المنصة الموقرة، والمنصة المقابلة، وإلى أصحاب المعالي والفضيلة والسماحة والنيابة والسعادة، وإلى جمهورنا الكريم من الحضور، مرحبًا وأهلًا وسهلًا بحضراتكم جميعًا.
وهذه الندوة الجليلة، التي تنعقد تحت عنوان: «الفتوى وقضايا الواقع الإنساني نحو اجتهاد رشيد يواكب التحديات المعاصرة»، تلامس محورًا شديد الأهمية في تكوين الفقيه والمفتي، وهو محور النظر الواسع، والتبحر، والإحاطة، والعلم الشامل بالشرع الشريف، نصوصه وعلومه ومناهجه ومقاصده، وفلسفته ورؤيته الكبرى، وكيف يمكن أن تسري كل هذه الأنوار إلى تصرفات البشر، وأحوال المكلفين، ونوازلهم، وأسئلتهم، واحتياجاتهم، واستفتاءاتهم.
وهو ما يوجب على المفتي أن يبذل جهودًا مضاعفة في دراسة علوم متعددة، ومعارف كثيرة، تعينه على تحقيق هذا المقصد الجليل. وهنا أجد أثمن وأقيم من كلمة للإمام المجتهد أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه، إذ يقول: «أقمت عشرين سنة أطلب أيام الناس، أستعين بذلك على الفقه».
وقال ابن القيم: «أقام الشافعي على العربية وأيام الناس عشرين سنة»، وقال الشافعي: «ما أردت بهذا إلا الاستعانة على الفقه».
وكان الإمام الشافعي رحمه الله يرشد بذلك إلى أن شأن الفقيه لا يقف عند تصور الأحكام الشرعية، وقواعدها، وأصولها فحسب، بل يتجاوز ذلك إلى البصر الواسع بالمحال التي تتنزل عليها الأوصاف والأحكام الشرعية.
إن الشريعة، بكل ما يندرج في ذلك من أحوال الناس ونوازلهم، واختلاف أمزجة الخلق، وتنوع أوضاع البشر، وما يدور بينهم من معارف وعلوم، ونظمٍ للإدارة، وتحركاتٍ للأسواق، وتعدد صور العقود والمعاملات؛ إنما تحتاج إلى فقهٍ حيٍّ واعٍ بالواقع، مدركٍ لحركة المجتمع، متابعٍ لما يستجد في شئون المعاش. فهذه المعارف هي التي تفتح للفقيه أبواب الفكر والنظر، وتفرز له المداخل البحثية، وتوقفه على ما يحتاج إليه الناس، وما يدور بينهم، وما يكتنف شئون حياتهم، مما يجب على الفقيه أن يلاحقه استيعابًا وفهمًا، وأن يعرف أسبابه، ويقف على آثاره في واقع الناس، ثم يمزج كل ذلك بالنظر الشرعي المحرر، والمعرفة التامة بالأحكام الشرعية؛ ليستخرج الحكم الشرعي، وينزله على الوقائع والأفكار تنزيلًا رشيدًا.
وقد تناثر أئمة العلم والهدى في تقرير هذا المعنى، فوجدنا الإمام الجليل عِكْرِمَة مولى عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما يقول: «إني لأخرج إلى السوق، فأسمع الكلمة يتكلم بها الرجل، فيفتح لي بها في العلم خمسون بابًا». فهو يقرر أنه يخالط الخلق، ويدخل الأسواق، ويعايش الناس، وليس في السوق إلا البيع والشراء، وأنواع المعاملات، وصور العقود، وما يطرأ على منظومة أخلاق المجتمع من صور التحايل وصنوف التعامل، فيحصل له بذلك اطلاع على الصور المستحدثة بين الناس، فيتحرك عقله في تكييفها تكييفًا شرعيًا، فتنفتح له أبواب من العلم النفيس، وتُستخرج بإزاء وقائع حياة البشر أحكامٌ وآداب، وتلوح معانٍ جليلة في نصوص الوحي، بقدر ما يفرزه المجتمع من شئون وأحداث.
ولأجل هذا كان عكرمة رضي الله عنه إذا قدم البصرة أمسك الحسن البصري عن الفتيا والتفسير ما دام عكرمة بها؛ لعلمه بفضله، وسبقه في إدراك الوقائع، ومعرفة واقع الناس، والوقوف على التحديات، ثم بذل الجهد في استخراج أحكام الشرع وآدابه في ضوء ذلك كله.
ولا أجد هنا أجمل ولا أرقّ ولا ألطف من كلام الإمام أبي الفرج ابن الجوزي رحمه الله، إذ يقول في صيد الخاطر: «ينبغي للفقيه أن يطالع من كل فن طرفًا، من تاريخ وحديث ولغة وغير ذلك، فإن الفقه يحتاج إلى جميع العلوم، ليأخذ من كل شيء منها حظًا». ويقول أيضًا: «ينبغي للفقيه ألا يكون أجنبيًا عن باقي العلوم، فإنه إن لم يكن كذلك لم يكن فقيهًا، بل يأخذ من كل علم بنصيب، ثم يتوفر بعد ذلك على الفقه».
بل وجدنا أرفع من ذلك وأدق، حين يقول الإمام الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى: «إن الفقيه يحتاج أن يتعلق بطرف من معرفة كل شيء من أمور الدنيا والآخرة، وأن يعرف الجد والهزل، والخلاف والضد، والنفع والضر، وأحوال الناس الجارية بينهم، وعاداتهم المعروفة، فمن شرط المفتي النظر في جميع ما ذُكر، ولن يدرك ذلك إلا بملاقاة الرجال، والاجتماع بأهل النِّحل والمقالات المختلفة، ومساءلتهم، وكثرة المذاكرة لهم، وجمع الكتب ودرسها، ودوام مطالعتها».
وإذا رجعنا إلى النظر في أهداف ندوة اليوم، وجدنا أنها كانت رشيدة، سديدة، موفقة، إذ وضعت يدها على ما نحتاج إليه في واقعنا المعاصر، في بلادنا وأوطاننا. فقد دونت الندوة في أهدافها أنها تستهدف إبراز دور الفتوى المعاصرة كأداة علمية ومجتمعية لمواجهة التحديات الإنسانية في ضوء المقاصد الشرعية، وترجمة مبادئ الكرامة الإنسانية إلى بروتوكولات إفتائية وآليات تنفيذ، وتصميم نماذج تمويلية مستدامة من الزكاة والوقف والكفارات والنذور والتكافل، ترتبط بمخرجات الفتوى، وبناء مؤشرات لقياس أثر الفتوى في الواقع، وإصدار دليل إجرائي لفتاوى الطوارئ والحالات المزمنة.
كما تهدف إلى ربط صناعة الفتوى بمقاصد الشريعة في حفظ النفس والدين والعقل والمال والنسل عند معالجة القضايا الإنسانية، واستثمار الفتوى في تعزيز الحلول العملية لمشكلات الفقر، والصحة، والجوع، والجهل، والأمية، والغزو الثقافي، ومناقشة التحديات الفكرية الناجمة عن هذا الغزو، وآليات المواجهة الشرعية، وإبراز البعد الشرعي والإنساني للقضية الفلسطينية من خلال الفتوى، والانتقال من الفتوى الفردية إلى سياسات للفتوى، بتحويل الحكم الشرعي إلى برنامج عمل مستدام، ممول بالعبادات المالية، وتعزيز احترام الكرامة الإنسانية بوصفها أساسًا معياريًا لصلاحية الفتوى، وحماية البنية الأخلاقية للمجتمع من الأخطار التي تتهددها.
وفي الختام، فقد نجحت ندوة اليوم في أن تضع لنفسها أهدافًا راقية وسامية، ترصد الواقع، وتلامس الاحتياج الحقيقي، وتقترب إلى أقصى حد من متطلبات الوطن، بل ومتطلبات الإنسانية جمعاء.
وباسم دولة رئيس مجلس الوزراء الموقر، ونيابة عن سيادته، أتشرّف بتكرار الترحيب بحضراتكم، راجيًا لكم طيب الإقامة، وحسن العودة، وجميل الأوبة إلى بلادكم وأوطانكم العزيزة.
وختامًا، أدعو الله جل جلاله أن يحفظ أرض الكنانة مصر بحفظه الجميل، وأن يبسط عليها بساط الرخاء والأمن والعافية والسعة، وأن يحفظ فلسطين حرةً عزيزةً أبية، وأن يحفظ القدس الشريف، وأكناف بيت المقدس، والمسجد الأقصى، وأهلنا الكرام من شعب فلسطين الأبي العظيم.






