عام

"الخبر لايف" كان هناك

معصرة “يونس” بقنا.. 257 عامًا فى إنتاج الزيوت.. والعجلة تجرها بقرة 

"الخبر لايف" كان هناك

أسسها “زارع” الجد السابع.. المبنى تحفة معمارية يحكى تراث الصعيد 

عبق التاريخ يفوح من الجدران الطينية ..والمعصرة تنتج 33 نوع زيوت طبية وعطرية

في زقاق قديم من مدينة قوص بمحافظة قنا، ينبعث عبق التاريخ من بين الجدران الطينية، ليقودك إلى معصرة “يونس” العتيقة، واحدة من أقدم معاصر الزيوت في مصر والعالم العربي، والتي ما زالت تدور فيها العجلة — حرفيًا — بواسطة بقرة.

هنا، لا تصنع الزيوت فقط، بل يُعتصر معها الزمن، وتُحفظ أسرار العائلة في زجاجات صغيرة تعبق برائحة السمسم والخس والثوم وحبة البركة.

يؤكد الحاج محمود يونس زارع، صاحب المعصرة، أن تاريخها يعود إلى عام 1190 هجريًا، حين أسسها الجد السابع “زارع”، أي قبل نحو 257 عامًا هجريًا، لتكون من أقدم معاصر الزيوت في مصر.

ويضيف: “كانت قوص وحدها تضم 13 معصرة، معظمها لإنتاج زيوت الطعام، خاصة زيت الخس والسمسم، لكن بمرور الزمن اندثرت تلك المعاصر، ولم يتبقَ منها سوى معصرة يونس، التي ما زالت تعمل بنفس النظام القديم.”

اليوم، تنتج المعصرة زيوتًا طبية وعطرية من 33 نوعًا من البذور، من أبرزها زيت حبة البركة، الثوم، البصل، الجزر، الخس، الفجل، الجرجير، اليانسون، الحلبة، وحتى زيت القرع والخردل، وجميعها يتم عصرها يدويًا دون آلات حديثة، مما يحافظ على الزيوت الطيارة التي تحترق في المعاصر الحديثة.

ويقول يوسف يونس، مدير المعصرة: “الطلب متزايد على زيت حبة البركة على وجه الخصوص، حيث ننتج منه نحو 5 كيلو جرامات يوميًا ويُستهلك بالكامل، فيما ننتج الزيوت الأخرى حسب الطلب، مشيرًا إلى أن فترة العصر اليومية لا تتعدى ساعتين فقط، من الثامنة إلى العاشرة صباحًا.”

يصطحبنا خالد محمود يونس في جولة داخل المعصرة، حيث الأزقة الضيقة تفوح منها رائحة التاريخ، وتستقبلنا وجوه مألوفة من شتى طبقات المجتمع، جاءت لتشتري الزيوت والعطور التي ذاع صيتها في كل مصر.

يقول: “الناس بتشترى زيت حبة البركة بشكل خاص، لأنه مش بس علاج، ده تراث.. واللي بيجربه بيرجع تاني، والمكان بيجمع ناس من كل الطبقات الاجتماعية والثقافية.”

المكان ذاته يبدو كتحفة معمارية تنتمي لقرون مضت: غرفتان فقط. الأولى للعصر والطحن، وتضم حجرًا ضخمًا يدور بواسطة بقرة، والثانية لحجرة “المكابس والأبراش”، وقد صُبغت الأرضية بألوان الزيوت المختلفة.

يشرح العامل جمال أبو المجد، الذي يعمل في المعصرة منذ 32 عامًا: “بنبدأ بعصر الحبوب على المدور، نضيف شوية مياه، نضغطهم بالمكبس، ونعبي الزيت في زجاجات.. شغلانة صعبة بس فيها بركة.”

ورغم أهمية منتجات المعصرة من الناحية الطبية والغذائية، إلا أن الإنتاج يظل محليًا، دون دعاية أو انتشار أوسع. لكن يوسف يونس يرى أن المعصرة ليست بحاجة إلى دعم: “كل حاجة بتتباع يوم بيوم، ومفيش مشكلة في التسويق، واللي ييجي مرة لازم يرجع.”

قبل عقود، كانت قوص تزخر بـ30 معصرة متخصصة في زيت الخس والزيوت الأخرى، لكن أغلبها أُغلق. وحدها “معصرة يونس” بقيت واقفة على قدميها، شاهدة على تاريخ وعراقة وحب للصناعة اليدوية.

ويقول الحاج محمد يونس: “الإعلام سلط الضوء على المعصرة أكتر من مرة، لكن اللي خلى المعصرة تعيش هو تمسكنا بالتراث وتوريثه من جيل لجيل.”

لم تكن جولتنا لمجرد تغطية صحفية، بل كانت رحلة إلى قلب تراث صعيدي عتيق، حيث ما زال الإنسان يحتفظ بيده وحواسه وكرامته، وسط عالم يركض نحو الآلة. “معصرة يونس” ليست مجرد مصنع زيوت، بل متحف حي، يحيا فيه الزمن، وتُعصر فيه البركة.

Follow us on Google News Button

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى