من ظلام السجن إلى دفء القاهرة.. أصغر أسير فلسطيني يحكي معجزة الصمود

من الزنزانة إلى الحياة.. حكاية رجل وُلِد من رحم المعاناة
لم يكن خروج محمد ششتري من سجون الاحتلال الإسرائيلي بعد 23 عامًا من الأسر مجرد لحظة حرية، بل ميلاد جديد لإنسان عاش نصف عمره خلف القضبان، يحلم بالسماء المفتوحة، ويتنفس الأمل من بين جدران الزنازين.
هو أصغر أسير فلسطيني حُكم عليه بالمؤبد في إسرائيل، لكنه خرج أكثر قوة وإصرارًا على الحياة، حاملاً في قلبه قصة تختصر مأساة شعب، وإيمانًا بأن الحرية لا تُشترى، بل تُنتزع بالصبر والعزيمة.
طفولة تحت الاحتلال.. وشابٌ قرر المقاومة
وُلد محمد ششتري عام 1985 في مدينة نابلس شمال الضفة الغربية، فوجد وطنه يئن تحت وطأة الاحتلال. وفي سن السادسة عشرة فقط، قرر أن يكون جزءًا من المقاومة الفلسطينية، لينضم إلى أحد فصائلها، ويبدأ مرحلة المواجهة المباشرة ضد قوات الاحتلال.
لم يكن ششتري مجرد فتى يحمل حجرًا، بل كان العقل المدبر لست عمليات نوعية داخل الأراضي المحتلة، أسفرت عن مقتل 36 جنديًا إسرائيليًا وإصابة أكثر من 400 آخرين، قبل أن يُعتقل في 15 نوفمبر 2002 بعد مطاردة استمرت ثمانية أشهر.
ورغم أنه لم يكن قد بلغ 18 عامًا، حكم عليه الاحتلال بـ أربعة مؤبدات (100 عام)، في مخالفة صريحة للقوانين الدولية التي تمنع الحكم بالمؤبد على القُصّر
بين الجدران الباردة.. خلق حياة كاملة من العدم
حين أُغلق باب الزنزانة على ششتري، لم يُغلق معه حلمه بالحياة. حول سنوات السجن إلى رحلة بناء ذاتي، فكان يبدأ يومه بقيام الليل وقراءة القرآن وممارسة الرياضة، ويواصل يومه بالتعلم والتواصل مع الأسرى، حتى نال بكالوريوس الخدمة الاجتماعية وماجستير من جامعة القدس المفتوحة داخل السجن، متحديًا القيود والحرمان.
يقول ششتري:.”بنيت عالمًا خاصًا بي داخل الأسر.. درست، علمت غيري، حفظت القرآن، وخلقت حياة تشبه الحرية رغم كل شيء.”
ورغم محاولات العزل والانتهاكات، ظل قلبه مفعمًا بالأمل، حتى حين أُودع العزل الانفرادي بتهمة التخطيط لأسر جنود الاحتلال داخل السجن.
من خلف الأسوار.. نافذة صغيرة على العالم
بذكاء وتخطيط، تمكن الأسرى من كسر عزلتهم التقنية عن العالم الخارجي، فدفع ششتري 70 ألف شيكل (أكثر من 20 ألف دولار) لتهريب هاتف محمول داخل السجن عام 2020، ليتمكن من التواصل مع أسرته، ومتابعة ما يحدث خارج الجدران التي سُجِن خلفها منذ مراهقته.
يقول بابتسامة مؤلمة: “الهاتف كان نافذتي الوحيدة على العالم.. كنت أسمع صوت أمي قبل أن يرحل عنها قلبي للأبد.”
أصعب اللحظات.. وفاة الأم ورفض الإفراج
لم تبكِ عيون ششتري قدر بكائها يوم علم بوفاة والدته عام 2018، وهي التي انتظرته طوال عمرها. يروي بأسى: “رفض الاحتلال الإفراج عني في ثلاث صفقات تبادل، وفي كل مرة كانت أمي تنتظرني… لكن المرة الرابعة كانت بعد رحيلها.”
الحرية أخيرًا.. الطريق إلى مصر
في صباح 10 أكتوبر 2025، أُبلغ ششتري بقرار الإفراج عنه من سجن “جنوت” الصحراوي، ليخرج من خلف القضبان بعد أكثر من عقدين من الأسر، ضمن صفقة إبعاد 143 أسيرًا إلى مصر.”
قبل خروجه، هدده أحد ضباط السجن قائلاً:عدت للمقاومة سنقتلك، عش بعيدًا عنّا، وستعيش.”
قبل خروجه، هدده أحد ضباط السجن قائلاً: لو عدت للمقاومة سنقتلك، عش بعيدًا عنّا، وستعيش.
لكن محمد لم يعبأ بالتهديد، بل شعر بالامتنان حين وطأت قدماه أرض مصر، قائلاً: “حسيت حالي في فلسطين.. المصريون استقبلوني كأهل، وكانوا السند الحقيقي لي بعد كل تلك السنوات.”
رسالة الأسير المحرر إلى المصريين
بكلمات صادقة خرجت من قلب أنهكه الأسر وأحياه الأمل، وجّه محمد ششتري رسالة إلى الشعب المصري قائلاً: “بشكر الشعب المصري والقيادة المصرية على احتضاننا في لحظة صعبة، أنتم الأهل والسند، ووقفتكم معنا لا تُنسى، بشكر كل مصري ساندني، وكل صحفي نقل للعالم حكايتنا.”
ويختم رسالته بابتسامة امتنان: “لما خرجت من الفندق، أول حاجة عملتها رحت آكل كشري من أبو طارق.. حسّيت نفسي حر فعلاً، حسّيت بطعم الحياة.”
23 عامًا من الأسر.. وولادة جديدة على أرض الكنانة
من وراء القضبان إلى شمس القاهرة، خرج محمد ششتري لا ليبدأ حياة جديدة فحسب، بل ليحمل رسالة أمة تنزف ولا تنكسر، وشعبٍ لا ينسى أن الحرية أثمن من العمر نفسه.
إنها حكاية الإنسان الذي لم تقتله الزنزانة، بل صقلته ليصير شاهدًا على أن الأمل لا يُسجن، وأن الحرية – مهما تأخرت – تأتي دائمًا من رحم الصبر.






