تحقيقات وتقارير

من زهرة حمراء إلى مصدر رزق.. كيف يحول الكركديه في “توماس” الأقصر حياة السيدات؟

قرية توماس.. قلب صعيد مصر ينبض باللون الأحمر

مع أول خيوط الشتاء، تتحول قرية توماس جنوب الأقصر إلى مسرح حي للون الأحمر، حيث تتراقص أزهار الكركديه في الحقول بين أيادي المزارعين والسيدات. هنا، الكركديه ليس مجرد محصول، بل تراث نوبي متجذر يروي حكايات الأجيال، ومصدر رزق ينتظره الجميع كل عام. بالنسبة لمئات السيدات، يمثل تقشيره مهنة تضمن دخلًا كريمًا واستقلالًا اقتصاديًا، في واحدة من أكثر قرى مركز إسنا فقراً، ليصبح كل حصاد فرصة جديدة للحياة والأمل.

مشهد الحصاد.. فرحة تعب نصف عام

وسط العيدان المتدلية للكركديه، يتجول علي فؤاد داخل حقله منتظرًا لحظة الحصاد. يمسك بالآلة الحادة ليقطع العيدان، بينما ترتسم على وجهه ابتسامة تعكس فرحة حصاد انتظرها لأكثر من ستة أشهر. يُجمع المحصول على عربته الكارو، استعدادًا لإرساله إلى سيدات القرية.

وفي أثناء عمله، يحكي “علي فؤاد” عن شعور الفخر الذي يختلط بالارتياح، فهو يعلم أن كل عيدان كركديه يقطعها اليوم ستتحول بعد أيام قليلة إلى مصدر دخل وحياة أفضل للسيدات اللاتي يجلسن في الأزقة لتقشيره بعناية. كل حركة يد هنا تحكي قصة صبر ومثابرة، وكل زهرة حمراء تتألق هي بمثابة مكافأة على الجهد الطويل.

توماس.. تاريخ طويل مع الكركديه

تشتهر قرية توماس 3 التابعة لمركز إسنا بزراعة الكركديه منذ عشرات السنين.

ويرجع السبب إلى النوبيين الذين جلبوا معهم تقاليد الزراعة من أسوان، ونقلوا معهم حبهم للكركديه إلى القرية التي أسسها الرئيس الراحل جمال عبدالناصر لتوطين النوبيين بعد بناء السد العالي.

يضيف علي فؤاد أن الأراضي الجبلية للقرية مثالية للكركديه، فهي لا تحتاج إلى كميات كبيرة من المياه مقارنة بالأراضي الطينية، وهو ما جعل المحصول أكثر استدامة.

كذلك ساهم الاستصلاح الزراعي للظهير الصحراوي في نجاح الزراعة، فالأرض الجافة والجو المشمس يشكلان البيئة الأمثل لنضج هذه الزهرة المميزة.

مئات الأفدنة.. موسم ينتظره الجميع

تزرع توماس سنويًا مئات الأفدنة من الكركديه، ويُعد هذا الموسم الأهم على الإطلاق لأهالي القرية، وخاصة للسيدات اللواتي يعتمدن على تقشيره كمصدر دخل أساسي.

النوع السعودي: زهرة كبيرة داكنة اللون، إنتاجيته مرتفعة، وسعر الكيلو نحو 200 جنيه.

النوع المصري الأحمر الفاتح: أقل إنتاجية، وسعر الكيلو حوالي 120 جنيهًا.

وتبلغ إنتاجية الفدان الواحد في الظروف المثالية نحو 400 كيلو جرام، وقد يصل سعر الفدان إلى نحو 60 ألف جنيه أو أكثر حسب جودة المحصول.

بالنسبة لأهالي القرية، لا يمثل الكركديه مجرد محصول، بل فرصة سنوية لإعادة ترتيب مصروفات الأسرة وتأمين حياة أفضل.

الكركديه.. مصدر رزق استراتيجي

يعتبر الكركديه من المحاصيل الاستراتيجية للقرية، فالموسم ينتظره الجميع باعتباره أحد أهم مصادر الدخل في واحدة من أكثر قرى مركز إسنا فقرًا.

تقول أم محمد، إحدى السيدات العاملات في تقشير الكركديه: “صاحب المحصول يحدد الشارع المخصص لتفريغ الكركديه، ثم توزع السيدات الحصص على البيوت لتقشيره.”

تقشير الكركديه.. تمكين اقتصادي للسيدات

يُقشر الجوال مقابل 75 جنيهًا، ويضم خمس صفائح، أي أن الصفيحة الواحدة تُقشر مقابل 15 جنيهًا.

توضح أم محمد أن هذه المهنة أحدثت نقلة اقتصادية كبيرة، حيث يمكن لكل سيدة تحقيق دخل شهري يصل إلى نحو 4000 جنيه، ما يسمح لها بدعم زوجها والإنفاق على أبنائها.

ويستمر موسم التقشير من ديسمبر وحتى نهاية فبراير، في ثلاثة أشهر حافلة بالعمل والفرح، حيث يجتمع النشاط الاقتصادي مع الترابط المجتمعي.

زراعة الكركديه في إسنا.. مساحة وإنتاج

يشير علي قناوي، نقيب المزارعين السابق بالأقصر، إلى أن زراعة الكركديه تمثل مصدر دخل أساسي لأهالي الجنوب. رغم عدم وجود إحصاءات دقيقة، تتجاوز المساحة المزروعة 250 فدانًا، تتركز معظمها في مركز إسنا.

ويضيف قناوي:“الكركديه أصبح جزءًا من الهوية الزراعية للجنوب، ويحظى بطلب محلي وعالمي متزايد.”

من النوبة إلى الأسواق العالمية

يوضح قناوي أن محصول الكركديه جاء إلى مصر من السودان، وزُرع في بلاد النوبة قبل أن يتحول إلى محصول تجاري مطلوب.

وتشتهر الأقصر وأسوان بزراعته وتصديره، بجانب تسويقه محليًا في المحافظات المختلفة، ليصبح جزءًا من الهدايا التي يحرص الزوار والسياح على اقتنائها كرمز للأصالة والتراث النوبي.

مراحل الزراعة والحصاد والتجفيف

تبدأ دورة الكركديه بتقسيم الأصناف بين البلدي الفاتح والسعودي الغامق، ويبدأ الحصاد في نوفمبر وديسمبر.

يُجمع المحصول يدويًا، ثم يُنقل للتقشير، وبعدها يُفرد على أسطح المنازل للتجفيف لمدة تصل إلى خمسة أيام، مستفيدًا من المناخ الجاف في صعيد مصر، الذي يُعد مثاليًا لتجفيف المحاصيل دون الحاجة لتقنيات حديثة.

تحديات تواجه زراعة الكركديه

رغم أهميته، يواجه الكركديه تحديات عدة، أبرزها تذبذب الأسعار عالميًا وارتفاع تكاليف الأسمدة والعمالة، ما أدى إلى زيادة سعر الكيلو هذا العام بنحو 100 جنيه، بالتزامن مع زيادة المساحات المزروعة.

ومع ذلك، يظل الكركديه ملاذًا اقتصاديًا للسيدات وللمزارعين الصغار.

التصنيع.. حلم يقترب من الواقع

يقترح المزارعون إنشاء وحدات لتصنيع وتعبئة الكركديه داخل توماس، على غرار تجربة الطماطم المجففة.

ويؤكد الأهالي أن هذه الخطوة ستضيف قيمة للمحصول، وتوفر فرص عمل للشباب، محوّلةً القرية إلى مركز رئيسي لإنتاج وتصنيع الكركديه في صعيد مصر.

هذا المشروع لا يعد مجرد فكرة اقتصادية، بل استثمار في التراث والثقافة النوبيّة، وتحويل الزهرة الحمراء إلى قصة نجاح متجددة كل عام.

 

 

Follow us on Google News Button

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى