لا تبدو الكتابة عن هموم الناس أمراً سهلاً، فالناس ملّت الفتوى التي «آخرها الكلام»، فما بالك إذا كانت من طبيب، لكن ما يشفع لي أنها رؤية نابعة من تجربة ومن واقع عايشته وجربته، أردت أن تكون نهجاً ربما تصبح مع الأيام سبيلاً للخروج بنا من عنق الزجاجة الذي يضيق حيناً بعد حين.
وبعد حديثنا المطول في الحلقتين السابقتين عن جذور الأزمة وأسبابها، ثم عن سلاسل الإمداد كحل بالإمكان أن يساهم في تخفيف وطأة المعاناة، نستعرض في هذه الحلقة رؤيتنا للطريقة التي يمكن بها تفعيل هذه الرؤية، بإيجاد وسيلة مناسبة لوصول السلع مباشرة من المستورد في حالة الاستيراد، أو المنتج في حالة الإنتاج، إلى أصغر تاجر تجزئة يتعامل معه المواطن، وبالتالي السيطرة على الأسعار، وضمان سلسلة إمداد مستقرة.
والفكرة تقوم على تأسيس شركة مساهمة وطنية، مهمتها أن تقوم بدور الوسيط بين مستورد السلعة أو منتجها، وبين آخر تاجر تجزئة على أن تكون قيمة أسهم هذه الشركة في متناول المواطن المصري العادي بحيث يستطيع معظم المصريين المشاركة بشراء أسهم هذه الشركة.
وبالمناسبة، هذه الفكرة مطبقة في دول عربية، أشهرها الإمارات، وجمعية أبوظبي هناك تقوم عل
ى هذا
الأساس، ويشارك في أسهمها المواطنون، وباتت علامة تجارية ووجهة تسوق محبوبة ومفضلة في الإمارة على مدى أكثر من 40 عاماً منذ افتتاح أول سوبرماركت لها على الإطلاق في عام 1981 على كورنيش أبوظبي.
وقد توسعت وباتت علامة تجارية مع زيادة عدد السكان وتملك الآن حضوراً في العشرات من المجتمعات السكنية في جميع أنحاء أبوظبي بأحجام مختلفة، وتضم محلات الهايبرماركت التابعة لها كل ما تحتاجه الأسرة تحت سقفٍ واحد. من المخبوزات إلى الجزّارين المدربين لتحضير اللحوم ومستلزمات البقالة اليومية والأطعمة، بالإضافة إلى الضروريات الم
نزلية والإلكترونيات والملابس، والناس في أبوظبي تستفيد منها بطريقتين، الشراء بأسعار مناسبة، والأرباح التي يحصلون عليها نهاية كل عام من أسهمهم التي اشتروها.
ومن الممكن طلب الدعم من المؤسسات الكبرى، كالقوات المسلحة مثلاً بنظام التعاقد أو المشاركة وذلك لما لديها من إمكانيات جبارة وهائلة، خاصة في عمليات التخزين وكافة اللوجستيات
الأخرى، وبالذات وجود أسطول نقل ضخم يتم استخدامه ويساهم في خفض التكلفة على المواطن.
في المرحلة الأولى، تتم الدعوة لإنشاء الشركة وطرح الأسهم للمواطنين، من أجل توفير مصدر تمويل ضخم، يسمح بتأسيس الشركة وهيكلها التنظيمي، وفي هذه الحالة ستتحقق للدولة وللمواطن مزايا عديدة، يمكن أن نسرد بعضها.
لعل أهم ميزة، تتمثل في تسجيل وحصر بيانات كافة تجار التجزئة عن طريق وضع شرط بأن يكون التعامل فقط مع المنشآت التي تم تسجيلها في قاعدة البيانات، ما يضيف قيمة كبرى لقاعدة البيانات، تسهم ربما في ضم شريحة كبيرة لروافد الاقتصاد المصري، وتحويلها من الاقتصاد غير الرسمي إلى الرسمي، يمكِّن في الاستفادة من تحصيل الضرائب المستحقة للدولة.
أيضاً، سيساهم ذلك في زيادة قدرة الدولة في السيطرة على الأسعار من خلال بيانات دقيقة ومستمرة عن مدى توافر السلعة وتكلفتها، وتوفير فرص عمل جديدة نظراً للحاجة المتوقعة للشركة إلى عاملين في شتى ربوع مصر، والمساهمة في إضافة معلومات لمصلحة الضرائب خاصة بتجار التجزئة، إذ من الممكن أن تكون إيجارات المحلات على سبيل المثال مرتفعة عليهم، وتصب في صالح ملاك هذه المحلات فقط، ويتم تحميلها على البائع دون محاسبة أصحابها ضريبياً.
أيضاً، ستتوافر السلع التي تتناسب مع قدرات تاجر التجزئة وقدرته على السداد بأسعار مخفضة عن مثيلتها، بعد كسر سلسلة الإمداد، التي كانت تستنزف دخل المواطن لصالح بضع مئات من الأشخاص.
وهناك الكثير من المميزات الأخرى، التي سنسردها في حلقة قادمة، كما سنعرض رؤية أخرى للتعامل في زمن الأزمات التي نعيشها كلنا وعلينا أن نتكاتف فيها للخروج منها بسلام، وحتى نلتقي تقبلوا وافر التحية وعاطر السلام.