عام

د. محمد أبو علي .. يكتب : فتنة اللغة

لقد اهتمَّ القدماءُ باللُّغةِ اهتمامًا كبيرًا حرصًا منهم على حفظ مَتنها ؛ لأنَّها لغة القرآن واعتقاداً منهم بأنَّ لكل نقطةٍ وحرفٍ وحركةٍ أثرٌ لُغوىٌّ عظيمٌ فى الحِجاج والإقناع، فتغييرُ حركةِ حرفٍ واحدٍ قد تُؤدِّي إلى تغييرٍ كبيرٍ في المعنى يُخْرِجُ الإنسانَ من الإيمانِ إلى الكفرِ.

وقد وُضِعَ النحوُ العربيُّ بكلِّ أبوابه لأنَّ مولى قرأ قولَه تعالى : ﴿ إنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ المُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ﴾، فقرأ (رسوله) بالكسر، إنَّ تغييرَ حركةِ حرفٍ واحدٍ تُؤدِّي إلى تغييرٍ كبيرٍ في المعنى، فكيف الحالُ إذا غيَّرنا الحرفَ نفسَهُ.

لقد ذهبَ أبو نواس لمدحِ الخليفةِ فلم يُعْطِه شيئًا، وعَلِمَ أنَّ الخليفةَ هائمٌ بجاريةٍ سوداءَ تُدعَى خالصة، يُغْدِقُ عليها الأموالَ والجواهرَ، فنَقم الشاعرُ عليهما، وكتبَ على بابِ الخليفةِ:
لَقَدْ ضَاعَ شِعْرِي عَلَى بَابِكُمْ كَمَـا ضَـاعَ دُرٌّ عَـلَى خَالِصَة

فغضبتْ الجاريةُ وجاءتْ الخليفةَ شاكيةً باكيةً، فاستدعى أبا نواس ليُعاقبه، وفَهِمَ أبو نواس الأمرَ فرجع للخليفة، ومسح ذيلَ العينِ في الفعل (ضاع) في الشطرين الأول والثاني، وجعل العين رأس همزة، وسأله الخليفةُ مستنكرًا ماذا فعلتَ؟ وكيف تجرؤ على كتابة ما كتبتَ؟ فقال أبو نواس: لقد كتبتُ:

لَقَدْ ضَاءَ شِعْرِي عَلَى بَابِكُمْ كَمَـا ضَـاءَ دُرٌّ عَـلَى خَالِصَة

فاستحسن الخليفةُ فعلَهُ وتصرُّفَهُ، وأنقذتْهُ لغتُهُ مِن عذابٍ أليمٍ.

وقريبٌ مِن ذلك هجاءُ المعري للوزيرِ ابن القارح، وعجْز ابن القارح عن عقابه؛ لأنَّ لكلامه ظاهرًا وباطنًا؛ يقول المعري لابن القارح في رسالةِ الغفران:« أنطقَكَ اللهُ بكلِّ فضلٍ، وجَمَّلَ الشريعةَ بحياتك، وأزلفَكَ مع الأبرارِ المُتقين، وأقَرَّ عينَك، وبَلَّغَكَ أقاصِي الأملِ ».

إنَّ ظاهرَ كلامِهِ دعاءٌ جميلٌ ؛ ولكنْ ليس من المعقولِ أنْ يتَّهمَ ابنُ القارحِ المعري بالزندقةِ والكفرِ؛ فيرُدَّ عليه مادحًا ، إنه لم يقصد المدح بقوله: « أنطَقَكَ اللهُ بكلِّ فضلٍ »، ولكنْ يقصد الفضل لغةً، وهو الزيادةُ على الحاجةِ، وعدم إصابة المقدار، أي جعلَكَ اللهُ ثرثارًا لا فائدةَ من كلامِكَ وحديثِكَ، وهذا المعنى لا ينفِي معنى المدح ، ولكنَّ السياق يُثْبِتُ أنَّ مقصودَهُ الهجاء، مثلما قصد عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ السخريةَ حين قال لمن يُقيم الحدَّ على ابنه وابن عمرو بن العاص: « اضرب ابن الأكرمين».

أما قول المعري : « وجَمَّلَ الشريعةَ بحياتك » فالحياةُ من معانيها الدمُ والقصاصُ، والدليل على ذلك قوله تعالى : ﴿ وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ ﴾ (البقرة :179) ، والشريعةُ هي النهرُ، وعليه فالمعنى المقصود هو الدعاءُ على ابن القارح بأن يُقتلَ في ماء؛ فتُزَيِّنُ دماؤه صفحةَ الماء، وهذا لا ينفِي المعنى القريب الظاهر ولكنَّنا في سياقِ هجاء.

أمَّا قوله : « وأزلَفَكَ مع الأبرارِ المتقين »، فالأبرار جمع بُر والبُر هو الفأر، والدليل على
ذلك قول العرب : لا يعرف هِرًّا من بُر ، بمعنى لا يعرف قطًّا من فأر ، وعليه فيكون معنى الدعاء في
سياق الهجاء : أدخلك الجحورَ مع الفئرانِ الخائفين .

أمَّا قوله : « وأقرَّ عينَك » ؛ فقرور العين لا يكونُ إلا لكثرةِ النِّعَم ، وذلك في سياقِ المدحِ ، مثل
قوله تعالى : ﴿ فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ (السجدة :17) ، أمَّا
في سياق الهجاء ، فقرور العين يعني الموتُ ، فأمارة موت الإنسان ثبات حركة العين .

أمَّا قوله: « بلَّغَكَ أقاصي الأمل » ، فمعناه كل ما تتمناه ، ولا يتوقف الإنسان عن التمني والأمل
إلا بالموت ، فكأن المعري يدعو على ابن القارح بالموت ، ومن ثَمَّ لم يستطع الوزير أنْ يُعاقبَ هذا
الشاعرَ المُبْدِع.
وقريبٌ من ذلك ردُّ المعرِّي على الشريف الرضي الذي هَجَا المُتنبي أمامه فردَّ عليه: « لو لَمْ
يَقُلْ المتنبي إلا قوله:

لَكِ يَا مَنَازِلُ فِي القُلُوبِ مَنَازِلُ أَقْفَرْتِ أَنْتِ وَهُنَّ مِنْكِ أَوَاهِلُ

لكان أعظم الشعراء ».
فغضب الوزيرُ غضبًا شديدًا ، وطلب من حُرَّاسهِ أن يَجُرُّوا المعري من قدميه ، ويُلقوه بالخارج، وفعل الحراسُ، فعاتبه أحدُ أصدقائه قائلاً له: لا يجوز أنْ تفعلَ مثل هذا الفعل برجلٍ في عبقرية
المعري، فضلاً عن كونه أعمى ولم يخاطبْكَ بسوءٍ، فكيف تفعلُ معه ذلك، وتأمر حراسك بأن يجرُّوه
من قدميه، ويُلقوه بالخارج، فقال : لقد كنتُ أشتِم المتنبي وأذُمَّه، وأنتقص منه، فقال المعري البيت
الذي قاله، وكان يقصد البيت الثاني مباشرة، وهو قول المتنبي :

وَإِذَا أَتَتْكَ مَذَمَّتِي مِـنْ نَاقِصٍ فَهِيَ الشِّهَـادَةُ لِي بِأَنِّي كَامِلُ
فجعلني ناقصًا ، فكيف لا أفعل ما فعلت ؟!

لقد أخلصَ المعري في حُبِّه للمتنبي فدافع عنه بلغةٍ قويةٍ يفهمها الآخر، ولكنَّه لا يستطيعُ أنْ
يُحاسبَه عليها؛ لِما فيها مِن لغةٍ ظاهرها المدحُ وباطنها التقريعُ والهجاءُ.

ولمكانةِ اللُّغةِ عند النَّاسِ أصبحتْ وسيلةً إعلاميَّةً، فها هو مسكين الدارمي ذا يُرَوِّجُ لبضاعة
صديقه الذي أوشك على الإفلاس، ويُعلنُ عن الأقمشة السوداء بأبياته الشهيرة:

قُلْ لِلمَلِيحَةِ فِي الخِمَارِ الأَسْوَدِ مَاذَا فَعَلَتِ بِزَاهِـدٍ مُتَعَبِّـدِ
قَدْ كَانَ شَمَّرَ لِلصَّلاةِ ثِيَابَــهُ حَتَّى وَقَفْتِ لَهُ بِبَابِ المَسْجِدِ
رُدِّي عَلَيهِ صَلاتَهُ وَصِيَامَـهُ لا تَقْتُلِيهِ بِحَقِّ دِينِ مُحَمَّــدِ

لقد توافدت النساءُ مِن كلِّ مكانٍ إثرَ سماعِ هذه الأبيات، ونفد ما عند التاجر من أقمشةٍ سوداءَ
بسببِ سحرِ اللُّغة التى تجعلُ مِن الحقِّ باطلاً ومن الباطلِ حقًّا، ويستشعرُ ابنُ الرومى ذلك فيقول:

فِي زُخْرُفِ القَـولِ تَرْجِيـحٌ لِقَائِلِهِ وَالحَـقُّ قَدْ يَعْتَرِيهِ بَعْضُ تَغْيِيـرِ
تَقُولُ : هَذَا مُجَاجُ النَّحْـلِ تَمْدَحُـهُ وَإِنْ تَعِبْ قُلْتَ : ذَا قَيءُ الزَّنَابِيرِ
مَدْحًا وَذَمًّا ، وَمَا جَاوَزْتَ وَصْفَهُمَا سِحْرُ البَيَانِ يُرِي الظَّلْمَاءَ كَالنُّورِ

وقد امتدح الجاحظُ واصلَ بن عطاء لقدرته على الإقناع، مع تجنُّبه حرف الراء في جميع كلامه
ليستر عيبًا قد يُنَفِّرُ الناس منه .
كما بدأ كتابه (البيان والتبيين) بقوله : « اللهم إنَّا نعوذُ بك من فتنةِ القولِ ، كما نعوذُ بك مِن فتنةِ
العملِ » .
ومن القصائدِ ذاتِ الصِّيتِ التاريخيِّ قصيدة أبى إسحاق إبراهيم بن مسعود؛ الفقيه الإلبيري
الزاهد – وكان كاتب القاضي بغرناطة – التي جعلت أهل الأندلس يثورون على الخليفة لأنه استوزر
يهوديًّا ، وفيها حوَّل التذمر من الضرائب إلى التذمُّر من جُبَاتها ، وكان أغلبُهم من اليهود، وأشار إلى
الترفِ الذي يعيشُ فيه الوزيرُ، ومنها قوله :

أَلا قُلْ لِصِنْهَاجَةٍ أَجْمَعِـيـنْ بُـدُورِ النَّـدِيِّ وَأُسْـدِ العَرِينْ
لَقَـدْ زَلَّ سَـيِّـدُكُـمْ زَلَّـةً تَقِرُّ بِهَا أَعْـيُـنُ الشَّـامِتِيـنْ
تَخَـيَّـرَ كَاتِـبَـهُ كَـافِـرًا وَلَو شَـاءَ كَانَ مِنَ المُسْلِمِيـنْ
فَعَـزَّ اليَهُـودُ بِهِ وَانْتَـخَوا وَتَـاهُوا وَكَانُـوا مِنَ الأَرْذَلِينْ
وَنَالُوا مُنَاهُمْ وَجَـازُوا المَدَى فَحَانَ الهَـلاكُ وَمَا يَشْعُـرُونْ

ومن سحر اللَّغة والبيان أيضًا ما نقله المنفلوطي إلى العربيةِ في كتابه (النظرات) بعنوان (سحر
البيان)، يقول: ورأيتُ في إحدى روايات شكسبير – وهي الروايةُ المعـروفةُ بروايةِ «يوليوس قيصر»
مَوقفًا لبطلين مِن أبطالِ الفصاحة، وفارسين من فرسان البيان ، قد وقف كلٌّ منهما مِن صاحبه موقفَ
اللاعبِ مِن اللاعب ، ووقف الشعبُ الرومانيُّ بينهما موقفَ الكرةِ بين مَضاربِ الأقدامِ ؛ تعلو بها حينًا
وتسفل أحيانًا ، فلا تَثْبُتُ صاعدةً ولا تستقرُّ هابطةً ، فعلمتُ أنَّ العامَّةَ عامَّةٌ في كلِّ عصرٍ، والشعبُ
شعبٌ في كلِّ مِصْر ، وأنَّ سوادَ الأمَّةِ تحت صرحِ فرعونَ مثله تحت عرشِ قيصر.

بروتس – وهو على منبرِ الخطابةِ – : أيها الرومانيون ، أتعدونني بالصبرِ القليلِ على سماعِ ما
أقولُ مِن حُلوِ الكلامِ ومُرِّهِ إكرامًا لموقفي ، وإكرامًا للعدل؟ أنا لا أريدُ أنْ أخدعكم عن أنفسكم ، ولا أن
أعبثَ بعقولكم وأهوائكم ؛ بل أريدُ منكم أنْ تنظروا إلى قضيتي نظرَ المُستيقِظِ الحَذِر، الذي لا يُعْطِي
هوادة ، ولا يسلس قيادة ….أيها الرومانيون ، إنْ كان بينكم صديقٌ لقيصرَ يُحبُّه ، ويتهالك وَجْدًا عليه ؛
فليسمحْ لي أنْ أقولَ له : أيُّها الصديقُ الكريمُ ، إنَّ بروتس قاتل قيصر كان يُحبُّه أكثر من حُبِّك إياه.
أيُّها القومُ، واللهِ لو كذبْتُ الناسُ جميعًا ما كذبتُكُمْ ؛ فاعلموا أنِّي ما قتلتُ قيصرَ لأنِّي كنتُ أبغضه
؛ بل لأنِّي كنتُ أُحبُّ روما أكثر منه.

كان قيصرُ يُحبُّني فأحببته ، وكان شجاعًا فاحترمتُه ، ولكنَّه كان طمَّاعًا فقتلتُه ، ففي ساعةٍ
واحدةٍ منحتُه دمعي وقلبي وخنجري .
أنا لا أُصدِّقُ أنَّ بينكم مَن يحزنُ لموت قيصر، فأنتم رومانيون ، والرومانيُّ لا يُحبُّ أنْ يعيشَ
ذليلاً .

مَن منكم يكره أنْ يكونَ رومانيًّا ؟ من منكم يكره أن يكون حُـرًّا ؟ من منكم يحتقر نفسه ؟ من
منكم يزدري وطنه ؟ إن كان بينكم واحد من هؤلاء فليتكلم ؛ لأنه هو الذي يحق له أن يثأر لنفسه مني ؛
لأني لم أسئ إلى أحد سواه .
الشعب : لا ، لا ، ليس فينا واحد من هؤلاء .

بروتس : إذن أنا لم أسيء إلى أحد منكم .

وما وصل بروتس من حديثه إلى هذا الحدّ حتى دخل أنطونيوس صديق قيصر ورأس الناقمين على قتلته
والمطالبين بثأره هو وآخرون , ومعهم جثة قيصر لتأبينه في هذا المجمع الحاشد ؛ فاستأنف بروتس
الكلام وقال : ها هي جثة قيصر وها هو صديقه أنطونيوس قد جاء ليؤبنه فاستمعوا له ، واعلموا أن
قيصر المذنب غير قيصر الماجد ، وقد سمعتم ما قيل عن الأول فاسمعوا ما قيل عن الثاني ، واسمحوا
لي أن أقول كلمة أختم بها خطابي .

أيها الرومانيون ، إن الخنجر الذي ذبحتُ به قيصر في سبيل روما لا يزال باقيًا عندي لذبح بروتس في
سبيل قيصر إذا أرادت روما ذلك .
تأثير الخطبة :
الشعب: ليحيا بروتس . أحد الناس : أنا أقترح أن نحمله على الأكف والرءوس إلى بيته .
آخر: انصبوا له تمثالاً.
آخر: لتهنأ روما بالخلاص منه .
آخر: ألا نسمع تأبين أنطونيوس ؟
آخر: نعم نسمعه ؛ لأنَّ بروتس أمر بذلك .
وهنا خرج بروتس والقلوبُ طائرةٌ حوله ، والعيونُ حائمةٌ عليه ، وقد نال بتأثير خطابه مِن
نفوس الشعب الرومانيِّ ما أراد ، ثم صعد أنطونيوس على مِنبر الخطاب ؛ فهزِأ الشعبُ بموقفه ، ولولا
كلمةً مِن بروتس ما ثبت في موقفه لحظةً واحدةً ، ثم أنشد قصيدةَ التأبينِ المشهورةِ التي هي آيةُ الآياتِ
في اللُّغةِ الإنجليزية فصاحةً وبيانًا ، والتي يكاد لا يوجد إنجليزي لا يحفظها.
أنطونيوس : أيُّها الرومانيون .
أحدُ الناسِ: اسمعوا ما يقوله أنطونيوس .
آخر: لا ، لا نسمعه.

أنطونيوس: اسمعوني إكرامًا لبروتس .
أحدُ الناسِ : ماذا يقولُ هذا الرجلُ عن بروتس؟
آخر: لا يقولُ شيئًا.
آخر: إذن نسمعه.
أنطونيوس: أيُّها الأصدقاءُ ، أنا ما جئتُ هنا اليوم لأرثي قيصرَ ، بل لأدفنَ جُثته .
أيُّها القوم ، ما مِن أحدٍ مِن الناسِ إلا وله في حياته أعمالٌ حسنةٌ ، وأخرى سيئةٌ ، أما حسناته
فتموت بموته ، وأما سيئاته فتبقى مِن بعده خالدةً إلى يوم يبعثون ، وكذلك كان قيصر في حياته ومماته،
وحسناته وسيئاته.
أيُّها القوم ، ما كنتُ لأستطيع أنْ أقفَ موقفي هذا بينكم، ولا أنْ أقولَ كلمةً مما أُريد أنْ أقولَ لولا
أنَّ بروتس قاتلَ قيصرَ أمرني بالوقوفِ وأمرني بالكلام ، وها أنتم تَرون أنَّني قد أطعتُه واستمعتُ له ؛
لأنه رجلٌ شريفٌ.
أيُّها القوم ، يقول الشريف بروتس: إنَّ قيصرَ كان رجلاً طمَّاعًا ، وأنا لا أستطيعُ أنْ أُخالفَه فيما
يقولُ ؛ لأنه رجلٌ شريفٌ .
أنا لا أستطيعُ أنْ أقولَ: إنَّ قيصرَ كان رجلاً قانعًا عادلاً أمينًا؛ لأنَّ الشريفَ بروتس يقولُ غير
هذا .
كلُّ ما أستطيعُ أنْ أقولَه: إنَّ الفديةَ التي افتدى بها أعداؤنا أسراهم الذين جاء بهم قيصر إلى روما
قد ملأتْ الخزانةَ العامةَ حتى فاضتْ بها.
كلُّ ما أستطيعُ أنْ أقوله: إنِّي رأيتُ قيصر بعيني يبكي لبكاءِ الفقراءِ ويحزنُ لحزنهم ، ويبيتُ
الليالي ذوات العددِ ساهرًا لا يغتمضُ له جفنٌ حدبًا بهم ، وعطفًا عليهم.
كلُّ ما أستطيعُ أنْ أقوله : إنِّي عرضتُ بنفسي تاجَ الملكِ على قيصرَ ثلاثَ مراتٍ فأباه زُهدًا فيه
، وازدراءً له .
كنتُ أستطيعُ أنْ أقولَ: إنَّ الطمعَ لا يسكنُ قلبًا مثل هذا القلب ، ولا يُخالط فؤادًا مثل هذا الفؤاد،
لولا أنَّ بروتس يقول: إنَّ قيصرَ رجلٌ طمَّاعٌ ، وأنا لا أستطيعُ مخالفتَهُ ؛ لأنه رجلٌ شريفٌ .
أيُّها الرومانيون ، إنكم أحببتم قيصرَ قبلَ اليومِ حُبًّا جمًّا ، فما الذي يمنعكم اليومَ مِن البكاءِ عليه؟
إنْ لم تبكوه لصفاته الكريمة فابكوه لأنكم كنتم تُحبُّونه ، ابكوه لأنه كان بالأمسِ ينطقُ الكلمةَ فتدوي في
صدورِ العظماءِ دَوِيَّ الرَّعدِ في آفاقِ السماءِ ، فأصبح اليوم مطرحًا في ظل هذا الحائط ، لا يجد بين
الناسِ من يأبهُ له ، ولا من ينظر إليه .
أيُّها الرومانيون ، عفوًا إن هذيت بينكم أو أسأت إليكم ، واعلموا أنَّ الحزن قد قسم فؤادي قسمين
: قسم على هذا المنبر ، وقسم في ذلك النعش .

أيُّها الأصدقاء ، إنَّ بين جَنْبَيَّ قلبًا يُخْفِقُ بحبكم والعطف عليكم والرأفة بكم ، ولولا مخافة أن
تنفجر صدوركم حزنًا وجزعًا لقلت لكم : إن قيصر قُتِلَ مظلومًا .
أنطونيوس : أتأذنون لي بالنزول من المنبر لأقف قليلاً بجانب جثة القتيل ؟
الشعب : نعم نعم .
فنزل أنطونيوس ومشى حتى وصل إلى جثة قيصر ، وهو لا يزال في ملابسه التي قتل فيها ،
ولا تزال طعنات الخناجر ظاهرة في قبائه ، ثم قال :
أنطونيوس : مَن كان يملك منكم دموعًا فليُعدَّها لهذا الموقف ، فإني سأبكيكم في هذه الساعة بكاءً
شديدًا .
إنكم جميعًا تعرفون هذا القباء ، ولكنكم لا تعرفونه كما أعرفه أنا ، أنا أعلم أن قيصر لبسه أول
مرة في مساء اليوم الذي انتصر فيه ذلك الانتصار الباهر الذي نالت به روما فخرًا عظيمًا.
ثم وضع يده على الثقوب التي في القباء وقال : «في هذا القباء الشريف تمزقت جثة هذا الفاتح
العظيم».
في هذا الثقب طعنه بروتس طعنته ، ومن هذا الثقب أطلَّ دم قيصر ليرى بعينه وجه الضارب،
وأحسب أن أفراد هذا النوع الإنساني جميعهم قد مروا بخاطر قيصر فردًا فردًا قبل أن يمر بخاطره
بروتس .

عرف قيصر أن قاتله هو صديقه وصنيعة إحسانه ، ففترت همته وعجز عن المقاومة لأن
الطعنة التي أصابته في جسمه لم تكن أقلَّ من الطعنةِ التي أصابته في قلبه ، ولم يكن منظرُ المُدَى
والخناجر أبشعَ في نظره مِن منظرِ الخيانةِ والغدرِ ، هنالك عجز قيصر عن أنْ يقولَ شيئًا غير الكلمة
التي ودَّع بها قاتله الوداع الأخير: (وأنت أيضًا يا بروتس!).
وهنالك تحت تمثال بومباي وُجِدَ قيصر قتيلاً ، وقد لفَّ وجهه بقبائه ؛ حتى لا تتألم نفسه مرة
ثانية بمنظر كفر النعمة ، ونكران الجميل.
ها أنتم تبكون على قيصر ، فشكرًا لكم على هذه الدموع الكريمة التي طهرتم بها ما لوث به
الخونة تربة الأرض من الدماء.
إنَّكم تبكون لِمنظرِ قِباءَ قيصرَ المُمزَّق ، فكيف بِكُم لو شاهدتم ما تَمزَّق من جثته.
ثم دنا وكشف القباء عن جسمه ، وقال :«إنَّ في كل جرحٍ من هذه الجروح لسانًا يشكو إليكم
فاستمعوا له ، فهو أنطق من لسان الرثاء»
أحدُ الناسِ : يا له مِن منظرٍ فظيعٍ .
آخر: وارحمتاه لقيصر.
آخر: إنَّ يومًا يُقْتَلُ فيه قيصر ليومٌ شرُّه مُستطير.

آخر: يا للدناءةِ والسفالة .
آخر: يا للغدرِ والخيانة .
آخر: الانتقام الانتقام .
الشعب – وهو يضجُّ ضجيجًا عظيمًا : أحرقوا القتلة ، مزِّقوهم ، لا تُبقوا على أحدٍ منهم.
أنطونيوس : مهلاً مهلاً ، أنا لا أريد أن أشعل بينكم فتنةً عمياء ، ولا أريد أن تُطالبوا القتلة
بالدماء التي أراقوها ، فإني لا أزال أعتقد أنهم قوم شرفاء ، وربما كانوا يعرفون أسبابًا لقتله لا نعرفها ،
وإنما أريد أن أقول لكم : «إن قيصرَ كان يُحبُّكم حبًّا جمًّا ، فهو يستحق رثاءَكم له ، وبكاءَكم عليه .
لولا أنِّي أُوثِرُ الإبقاء عليكم ، ولولا أني أحب تخفيف ما ألمَّ بقلوبكم مِن الحزنِ على فقيدكم
لتلوت عليكم وصيته لتعلموا أنَّ الرجلَ كان يحبكم ، وأنَّه ما كان خليقًا أنْ يُقتل بينكم ؛ وفيكم عينٌ
تطرفُ وفؤادٌ يخفق .
الشعب : اقرأ الوصية.
أنطونيوس : إنِّي أخاف على صدوركم أنْ تنفجرَ حزنًا على القتيل الشهيد.
الشعب : نريدُ سماعَ الوصية.
أنطونيوس : إنَّه يُعطي كلَّ فردٍ مِن أفرادِ الرومانِ خمسةً وسبعين فرنكًا ، ويُوصِي بجميعِ غاباته
ومُنتزهاته ورِياضه لأمته .
أحدُ الناسِ: يا له من رجل كريم .
آخر: يا له من رجل شريف .
آخر: ويلٌ للقَتَلَة .
آخر: الثورة ، الثورة .
آخر: سنحرقُ منزلَ بروتس ومنازلَ رفاقِهِ .
ثُمَّ خرج الشعبُ يتدفَّقُ في شوارع روما تدفُّقَ الأمواجِ الثائرة في المحيط.
أنطونيوس -في موقفه وحده- : أيَّتُها الفتنةُ العمياءُ ، قد أيقظتُكِ مِن مرقدكِ فارفعي رأسكِ
وامضي في سبيلكِ ، واشتعلي حتى يحرقَ لسانُكِ أديمَ السماء ، وحتى لا تُبقِي على شيء مما حواليك.
وهكذا استطاع أنطونيوس في موقفٍ واحدٍ أنْ يستعبدَ الشعبَ الرومانيَّ لنفسِهِ ، وما كاد يخلص
من استعباد قيصر ، وهكذا الأممُ الضعيفةُ لا مفرَّ لها من العبوديةِ لِحَمَلَةِ التيجانِ ، أو حَمَلَةِ البيانِ .
وصَدَقَ حافظ إبراهيم حين قال عن اللغة العربية وسحر بيانها :
أَنَا البَحْرُ فِـي أَحْشَـائِهِ الدُّرُّ كَامِنٌ فَهَلْ سَأَلُـوا الغَـوَّاصَ عَـنْ صَدَفَاتِي

فَيَا وَيْحَكُمْ أَبْلَـى وَتَبْلَـى مَحَاسِنِـي وَمِنْكُـمْ وَإِنْ عَـزَّ الـدَّوَاءُ أُسَـاتِـي
فَلا تَكِلُـونِـي لِلـزَّمَـانِ فإنَّـنـي أَخَافُ عَلَيْـكُـمْ أنْ تَحِـيـنَ وَفَاتِـي
إنَّ فتنةَ اللغةِ نابعةٌ من عمقها وروعتها ، فهي مستودعٌ هائلٌ يحمل ما لا يستوعبه إلا الفطن
اللبيب ، إنَّ لها من المرونة ما يجعلها تُطاوع ما بدا على الألسُن وما خَفِيَ في القلوبِ ، والمتمعِّنُ في
جمالها مفتونٌ بها .

Follow us on Google News Button

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى