صلاح رشاد .. يكتب: الأمين يجهز «ابن جبلة» .. للانتقام
لما قتل علي بن عيسى، ندم الأمين علي ما كان من نكثه وغدره بأخيه المأمون، ومشى القواد بعضهم إلى بعض وقالوا إن عليا قد قتل، ولسنا نشك أن الأمين يحتاج إلى الرجال واصطناع أصحاب الصنائع، فليأمر كل رجل منكم جنده بالشغب وطلب الأرزاق، فلعلنا ان نصيب منه في هذه الحالة ما يصلحنا ويصلح جندنا.
وهذه نظرة أنانية أن يستغل قادة الأمين ذلك الموقف الصعب ليفرضوا شروطهم المالية عليه، وهذا ما فعله معظم قواد الأمين وجنودهم فقد اجتمعوا عند باب الجسر وكبروا وطلبوا الأرزاق والجوائز، وبلغ الخبر عبد الله بن خازم أحد قواد الأمين المقربين منه، فركب إليهم في أصحابه وفي جماعة غيره من قواد الأعراب فتراموا بالنشاب والحجارة فاقتتلوا قتالا شديدا وسمع الأمين التكبير والضجيج فأرسل بعض مواليه ليأتيه بالخبر، فرجع إليه فأعلمه أن الجند قد اجتمعوا وشغبوا لطلب أرزاقهم، قال: فهل يطلبون شيئا غير الأرزاق، قال: لا، قال الأمين: ما أهون ما طلبوا، ارجع إلى عبد الله بن خازم فمره فلينصرف عنهم ثم أمر لهم بأرزاق أربعة أشهر، ورفع من كان دون الثمانين درهما إلى الثمانين، وأمر للقواد والخواص بالصلات والجوائز.
ذلك الموقف كان يحتاج الي حزم وليس الي مرونة، لكن حساسية موقف الأمين بعد هزيمة جيشه الكبير، جعلته يوافق علي فتح أبواب خزائنه لإرضاء القادة والجند.
هذا هو الموقف في بغداد .. فماذا عن الوضع في خراسان ؟ .. جاء في تاريخ الطبري أن طاهرا بعد النصر علي جيش الأمين أرسل كتابا الي الفضل بن سهل، قال فيه: أطال الله بقاءك وكبت أعداءك، كتبت إليك ورأس علي بن عيسى في حجري وخاتمه في يدي، والحمد لله رب العالمين.
فنهض الفضل، فسلم على المأمون بأمير المؤمنين، فأمد المأمون طاهر بن الحسين بالرجال والقواد وسماه ذا اليمينين وصاحب حبل الدين، ورفع من كان معه دون الثمانين درهما شهريا إلى الثمانين.
وبدأ الفضل بْن سهل يجني الثمار التي عمل وخطط من أجلها، فعقد له المأمون على المشرق كله، من جبل همذان إلى جبل سقينان والتبت طولا، ومن بحر فارس والهند إلى بحر الديلم وجرجان عرضا، وجعل له 3مليون درهم سنويا، وسماه ذا الرياستين، رياسه الحرب، ورياسة التدبير.
وهنا يثور سؤال: ألم يكن من الأفضل أن يفكر الأمين في إيقاف هذه الحرب وإرسال وفد لمصالحة أخيه المأمون وعودة الأمور إلي ما كانت عليه قبل الصدام، ويحتفظ المأمون بكل المزايا التي وفرها له أبوه الرشيد في وثيقة ولاية العهد؟ ..
بصراحة لم يتوقف المؤرخون عند هذه الجزئية، ربما لأنها لم ترد علي ذهن الأمين أو أذهان قواده وكبار رجالات البيت العباسي.
لكن هل كانت هذه الفكرة قابلة للتطبيق علي أرض الواقع ؟
أغلب الظن أنها لم تكن لترى النور لأن الدماء قد سفكت بالفعل بين الأخوين والشر قد وقع بينهما، ولن يأمن عبد الله المأمون أخاه محمد الأمين بعد كل ما حدث، كما أن الفضل بن سهل مدبر دولة المأمون وصاحب الكلمة المسموعة فيها، ما كان ليوافق علي ذلك، وسيملأ صدر المأمون بالشك والخوف من غدر أخيه من جديد، إذا استقرت له الأمور وتجاوز صدمة هذه الهزيمة.
وأغلب الظن أيضا أن هذه الفكرة لم تراود الأمين رغم وجاهتها لما فيها من حفاظ على الدولة وحقن لدماء المسلمين ورأب الصدع بين الأخوين، فالأمين كان يظن أنه خسر معركة ولم يخسر الحرب، ومازالت لديه أوراق كثيرة وقواد وجيوش يستطيعون قلب المائدة علي المأمون ورجاله وقواده.
وربما أيضا ظن الثعلب الماكر الفضل بن الربيع أن الأمور لم تتدهور الي هذا الحد، والفرصة في النصر الحاسم مازالت قائمة، خاصة أن الحرب بين الأخوين كانت في بدايتها.
نعود الي الأمين الذي اختار عبدالرحمن بن جبلة الأنباري ليقود جيشه الثاني ويسبق طاهر بن الحسين إلي همذان (مدينة ايرانية)، وأوصاه بأن يكون حذرا ويتلافي كل الأخطاء التي وقع فيها علي بن عيسي.
وكان عبد الرحمن بن جبلة بطلا شجاعا لكنه اصطدم بالداهية طاهر بن الحسين، الذي لم يكن من السهل هزيمته، خاصة أنه كان يجيد قراءة أفكار خصومه وخططهم ويتحرك علي أساسها، وهذه موهبة عظيمة في الحروب.
كان جيش عبد الرحمن يتكون من 20 ألف جندي، وهو رقم جيد، وقد أغري الأمين قائده بأن ولاه علي همذان وعلي كل أرض سيفتحها في خراسان أو تقع في قبضته، وأمده بالأموال فسار حتى نزل همذان وحصنها ورمم سورها.
ثم أقبل طاهر بن الحسين إلي همذان فخرج إليه عبد الرحمن على تعبئة فاقتتلوا قتالًا شديدًا، وصبر الفريقان وكثر القتل والجراح فيهم، ثم انهزم عبد الرحمن ودخل همذان فأقام بها أيامًا حتى قوي أصحابه واندملت جراحهم، ثم خرج إلى طاهر فلما رآهم، قال لأصحابه: إن عبد الرحمن يريد أن يتراءى لكم فإذا قربتم منه قاتلكم فإن هزمتموه، دخل المدينة قاتلكم على خندقها، وإن هزمكم اتسع له المجال، ولكن قفوا قريبًا من عسكرنا وخندقنا فإن قرب منا قاتلناه.
وهذه كما قلنا كانت من أبرز مزايا طاهر، قراءة أفكار خصومه والعمل علي إبطال مفعولها سريعا.
فوقف رجال طاهر ، فظن عبد الرحمن أن الهيبة منعتهم فتقدم إليهم فاقتتلوا قتالًا شديدا وصبر الفريقان وكثر القتل في أصحاب عبد الرحمن وجعل يطوف عليهم ويحرضهم ويأمرهم بالصبر، ثم إن رجلًا من أصحاب طاهر حمل على صاحب علم عبد الرحمن فقتله، وزحمهم أصحاب طاهر فانهزموا، ووضع فيهم أصحاب طاهر السيوف يقتلونهم حتى انتهوا إلى المدينة، وأقام طاهر على بابها محاصرًا لها فاشتد بهم الحصار وضجر أهل المدينة، فخاف عبد الرحمن أن ينقض عليه أهل المدينة غضبا من هذا الحصار الذي يدفعون ثمنه، فأرسل إلى طاهر يطلب الأمان لنفسه ولمن معه.
فهل وافق طاهر علي أن يعطيهم الأمان ؟
نجيب في الحلقة المقبلة إن شاء الله .