صلاح رشاد .. يكتب: الأمين يوجه جيشين لكسر طاهر بن الحسين
قلنا إن محمد الأمين لم يفقد الأمل فما زال يمتلك القادة والجيوش والأموال ونصح الأمين قائده أحمد بن مزيد قائلا : أكمش على أمرك، وعجل المسير إلي طاهر .
خرج أحمد فانتخب الرجال واعترض الدفاتر، فبلغت عدة من معه 20 ألف رجل ثم توجه بهم إلى حلوان (مدينة تقع حاليا غرب ايران).
وعندما هيأ نفسه للرحيل بالجيش ذهب للأمين، وقال له: أوصني أكرم الله أمير المؤمنين، فقال: أوصيك بخصال عدة: إياك والبغي، فإنه عقال النصر، ولا تقدم رجلا إلا باستخارة، ولا تشهر سيفا الا بعد إعذار، ومهما قدرت باللين فلا تتعده إلى الخرق والشره، وأحسن صحبة من معك من الجند، وطالعني بأخبارك في كل يوم، ولا تخاطر بنفسك طلب الزلفة عندي، وكن لعبد الله أخا مصافيا (يقصد عبدالله بن حميد قائد الجيش الثاني)، وقرينا برا، وأحسن صحبته، ولا تخذله إن استنصرك، ولا تبطئ عنه إذا استصرخك، ولتكن أيديكما واحدة، وكلمتكما متفقة ثم قَالَ: سل حوائجك، وعجل السراح إلى عدوك فدعا له أحمد، وقال: يا أمير المؤمنين، كثر لي الدعاء ولا تقبل في قول باغ، ولا ترفضني قبل المعرفة بموضع قدمي لك، واصفح عن ابن أخي اسد، قال: ذلك لك، ثم بعث إلى أسد، فحلَّ قيوده وخلي سبيله.
وجه أحمد بن مزيد في 20 ألف رجل من الأعراب، وعبد الله بْن حميد بْن قحطبة في جيش أيضا من 20 ألف رجل، وأمرهما أن ينزلا حلوان، ويدفعا طاهرا وأصحابه عنها، وإن أقام طاهر بشلاشان أن يتوجها إليه في أصحابهما حتى يدفعاه، وينصبا له الحرب، وتقدم إليهما في اجتماع الكلمة والتواد والتحاب على الطاعة، فتوجها حتى نزلا قريبا من حلوان بموضع يقال له خانقين.
(نلاحظ أن الأمين في كل وصاياه لقواد جيوشه كان يحذرهم من البغي، متناسيا أنه هو الذي بغي علي أخيه المأمون ويبدو من ٌقديم الأزل أن هناك ملوكا وسلاطين وخلفاء يكذبون ثم يصدقون كذبهم ثم يطلبون من الناس أن تصدق هذه الأكاذيب).
نجد هذه المرة أن الأمين أرسل جيشين لمواجهة طاهر بن الحسين، وكلا الجيشين يقوده رجل من أسرة عريقة في الفروسية وخدمة الدولة العباسية .. وكان من المفترض أن يكون ذلك في مصلحة الأمين وأن يعزز حظوظه في النصر هذه المرة علي القائد الداهية طاهر بن الحسين.
لكن تأتي الرياح بما لاتشتهي السفن.
أقام طاهر بموضعه، وخندق عليه وعلى أصحابه، ودس الجواسيس والعيون إلى الجيشين القادمين لمحاربته، فكان جواسيسه يأتونهم بالأراجيف، ويخبرونهم أن الأمين قد وضع العطاء لأصحابه، وقد أمر لهم من الأرزاق بكذا وكذا، ولم يزل يحتال في وقوع الاختلاف والشغب بينهم حتى اختلفوا، وانتقض أمرهم، وقاتل بعضهم بعضا، فأخلوا خانقين (مدينة عراقية تقع علي الحدود الشرقية مع إيران)، ورجعوا عنها من غير أن يلقوا طاهرا، ويكون بينهم وبينه قتال.
كان طاهر رجل حرب من الطراز الأول ويعد لكل أمر عدته، وعندما علم أن الأمين ارسل له هذه المرة جيشين، وعلي رأس كل جيش قائد كبير محنك، لجأ إلي الحيلة والخديعة فوضع الجواسيس في قلب الجيشين ودس فيهما الأخبار الكاذبة حتي تنازعا واختلفا، وبدلا من أن يستمع قائدا الجيشين لنصيحة الأمين وأن يكونا يدا واحدة وقلبا واحدا علي طاهر بن الحسين، اختلفا وتنازعا ودب الشقاق بينهما، ونجحت حيلة طاهر ففرق بين الجيشين الكبيرين وانتصر عليهما بدون قتال.
ألم نقل منذ بداية المواجهات إن المأمون كان محظوظا برجاله الأفذاذ وعلي رأسهم الفضل بن سهل شيطان السياسة، وطاهر بن الحسين شيطان الحرب.
تقدم طاهر حتى نزل حلوان وهي مدينة استراتيجية تقع حاليا غرب إيران (وهي طبعا غير مدينة حلوان المصرية)، فلم يمكث فيها إلا قليلا حتى أتاه هرثمة بن اعين بكتاب المأمون والفضل بن سهل، يأمرانه بتسليم ما حوى من المدن والكور(المناطق الريفية) إليه، والتوجه إلى الأهواز، فسلم ذلك إليه، وأقام هرثمة بحلوان فحصنها ووضع مسالحه ومراصده في طرقها وجبالها، ( المسالح أماكن يقف فيها الجند بالسلاح للمراقبة).
وتوجه طاهر إلى الأهواز (مدينة جنوب غرب إيران)، وبدأ موقف الأمين يزداد صعوبة بعد أن أرسل المأمون جيشا آخر لمعاونة طاهر يقوده رجل محنك مخضرم من رجالات الحرب والإدارة في دولة بني العباس هو هرثمة بن اعين.
وفي هذه اللحظات العصيبة علي محمد الأمين يظهر رجل مهم من البيت العباسي يحاول بدهائه وخبرات السنين أن يحسن أوضاع الأمين وينقذه من شبح هزيمة ساحقة بدأت تلوح في الأفق.
هذا الرجل هو الأمير العباسي الكبير عبد الملك بن صالح بن علي، وكان عبدالملك ابن عم أبي جعفر المنصور ومن رجالات بني العباس دهاء وذكاء وسرعة بديهة وبلاغة وفصاحة، وكان يخشاه هارون الرشيد ولذلك ضيق عليه الخناق ثم سجنه.
فلماذا كان الرشيد يخشاه؟ وماهي مواقفه معه ؟
وكيف خرج من السجن؟
وماذا كانت نصيحته للأمين ؟
كل هذه التساؤلات نجيب عنها في الحلقة المقبلة إن شاء الله .