صلاح رشاد .. يكتب: الملك العضوض والأثمان الباهظة (42)
نهاية أبي جعفر المنصور
تخلص أبو جعفر المنصور من كل أعدائه وبني ملكا عريضا لذريته من بعده، ثم جاءت نهايته المحتومة التي قدرها الله عز وجل علي الخلائق أجمعين ،وفي رحلته المضنية من أجل توطيد دعائم ملكه وسلطانه ،ارتكب جرائم ووقع في الزلات والموبقات .. ويبقي حسابه عند ربه بما اقترفت يداه.
«وماربك بظلام للعبيد».
وفي السنة التي مات فيها أبو جعفر قال لابنه محمد المهدي : يا بني إني ولدت في ذي الحجة وقد وقع لي أن أموت في ذي الحجة، وهذا الذي جرأني على الحج عامي هذا، وودعه وسار واعتراه مرض الموت في أثناء الطريق فما دخل مكة إلا وهو ثقيل جدا.
وننقل نهاية أبي جعفر المنصور كما رواها الإمام الطبري في كتابه الشهير “تاريخ الرسل والملوك “، حيث ذكر عيسى بن محمد أن موسى بن هارون حدثه، قال: لما دخل المنصور آخر منزل نزله من طريق مكة، نظر في صدر البيت الذي نزل فيه، فإذا فيه مكتوب: ” بسم الله الرحمن الرحيم ” .
أبا جعفر حانت وفاتك وانقضت سنوك
وأمر الله لابد واقع
أبا جعفر هل كاهن أو منجم
لك اليوم من حر المنية مانع!
قال: فدعا بالمتولي لإصلاح المنازل، فقال له: يا أمير المؤمنين، والله ما دخلها أحد منذ فرغ منها، (أي تم تجهيزها ) فقال: اقرأ ما في صدر البيت مكتوباً، قال: ما أرى شيئاً يا أمير المؤمنين، قال: فدعا برئيس الحجبة، فقال: اقرأ ما على صدر البيت مكتوباً، قال: ما أرى على صدر البيت شيئاً، فأملى المنصور البيتين فكتبا عنه، فالتفت إلى حاجبه فقال: اقرأ لي آية من كتاب الله عز وجل تشوقني إلى الله عز وجل، فتلا قول الله تعالي بعد بسم الله الرحمن الرحيم “وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ” ، فأمر المنصور بفكيه فوجئا (أي أنه أمر بضرب الحاجب علي فكيه ضربا شديدا) وقال: ما وجدت شيئاً تقرؤه غير هذه الآية! فقال: يا أمير المؤمنين، مُحي القرآن من قلبي غير هذه الآية، فأمر بالرحيل عن ذلك المنزل تطيراً (يعني تشاؤما ) مما كان، وركب فرساً، فلما كان في الوادي الذي يقال له سقر – (إسم الوادي سقر)، اللهم أجرنا من سقر، وكان آخر منزل بطريق مكة – كبا به الفرس، (إختل توازنه فسقط من علي الفرس) فدق ظهره، ومات فدفن ببئر ميمون.
وذكر عبد الله بن عبيد الله، أن عبد العزيز بن مسلم حدثه أنه قال: دخلت على المنصور يوماً أسلم عليه؛ فإذا هو باهت لا يحير جواباً، فوثبت لما أرى منه، أريد الانصراف عنه، فقال لي بعد ساعة: إني رأيت فيما يرى النائم؛ كأن رجلاً ينشدني هذه الأبيات:
أخي أخفض من مناكا .. فكأن يومك قد أتاكا
ولقد أراك الدهر من .. تصريفه ما قد أراكا
فإذا أردت الناقص.. العبد الذليل فأنت ذاكا
ملكت ما ملكته .. والأمر فيه إلى سواكا
فهذا الذي ترى من قلقي لما سمعت ورأيت.. فقلت: خيراً رأيت يا أمير المؤمنين.. فلم يلبث أن خرج إلى الحج فمات.
ما رآه أبوجعفر قبل موته يعطينا لمحة عن حياته المليئة بالمواقف والأحداث الدامية، وهي نهاية غير مطمئنة لرجل مقدم علي لقاء الله يطلب من حاجبه أن يتلو شيئا من القرآن الكريم يشوقه إلي لقاء الله فلا يجد في صدره إلا هذه الآية “وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون “.
آية تزلزل قلوب الظالمين ، فياويل الظالمين مما هو آت .. ويا ويلهم من جبار الأرض والسماوات.
مات أبو جعفر المنصور بعد 22 سنة قضاها في الخلافة، بني خلالها ملكا عريضا لأبنائه بالحيلة والدهاء ،والدماء والأشلاء، وهكذا هم ملوك الدنيا إلا من رحم الله.
وبعد موت المنصور تولي ابنه محمد المهدي وكان مرنا هينا وألين عريكة من أبيه .. فالمهدي من جيل الأبناء المرفهين المدللين، علي النقيض من أبيه الذي كانت حياته خشنة لا مكان فيها للهو وسماع المغنين، وهذه عادة الآباء المؤسسين أن يركنوا إلي الجد والعزم والحزم لبناء دولتهم، تاركين لأبنائهم بعد ذلك أن ينعموا بالظل الظليل والعيش الرغيد.
وكان أول الملوك المرفهين من بني العباس هو محمد المهدي الذي تربي في القصور لأن دولتهم عندما تأسست كان طفلا في السادسة من عمره ،فتنعم منذ صغره تنعم أبناء الملوك، و نتحدث عن بعض مواقفه وحكايته مع ولاية العهد في الحلقات المقبلة إن شاء الله .