صلاح رشاد .. يكتب: الملك العضوض والأثمان الباهظة (45)
الهادي يصطدم بأمه
كان موسى الهادي في الثالثة والعشرين من عمره عندما تولي الخلافة وهو أصغر من تولي الخلافة في مستهل دولة العباسيين وفي عصر قوتها، فقد تولاها أبوالعباس السفاح أخو جده وهو في الثامنة والعشرين من عمره، وتولاها جده أبوجعفر المنصور وهو في الثانية والأربعين من عمره، وتولاها أبوه محمد المهدي وهو في الثالثة والثلاثين من عمره.
كان الهادي يتفجر شبابا وحيوية، جاء في البداية والنهاية للإمام ابن كثير أن موسى الهادي كان من أفكه الناس مع أصحابه في الخلوة، فإذا جلس في مقام الخلافة كانوا لا يستطيعون النظر إليه، لما يعلوه من المهابة والرياسة، وكان شاباً حسناً وقوراً مهيباً.
هذا يعني أن الهادي كان يختلف عن أبيه الهين اللين وكان الهادي يمتلك بعضا من هيبة جده المنصور وحزمه، وإذا كان المهدي قد سمح لزوجته الخيزران بأن تتدخل في شئون الخلافة والملك، فإن ابنها موسي ليس مثل أبيه في هذه الجزئية بالذات، فكان أول صدام للهادي مع آل بيته من نصيب أمه الخيزران التي اعتادت منذ أواخر عهد زوجها المهدي أن تكون لها كلمة مسموعة في دولة الخلافة.
وقد قلنا مرارا وتكرارا إن الملك عقيم يعني لا يبالي بالقرابة القريبة وصلة الأرحام، وكل من يزاحم صاحب السلطان فهو في مرمي النيران مهما كانت درجة قرابته .
وكان موسي الهادي شجاعا مقداما مندفعا جسورا غيورا، ولاه أبوه الولايات وجعله قائدا لبعض الجيوش، وكان من المنتظر أن تفقد الخيزران فى خلافته نفوذها الذى تعودت عليه.
ذكر الإمام العلامة ابن جرير الطبرى فى تاريخه أن الهادى سمح باستمرار نفوذ أمه أربعة أشهر فقط، فكانت تفرض عليه بعض الأمور وتسلك به مسلك أبيه من قبله فى الاستبداد بالأمر والنهى، لكن الهادى لم يتحمل ذلك أكثر من 4 شهور وقال لها إنه ليس من شأن النساء التدخل فى أمر الملك، وعليك بصلاتك وتسبيحك.
كان التدخل في شئون الملك والسلطان قد أصبح إدمانا بالنسبة للخيزران ومن الصعب أن تشفي منه ببضع كلمات من إبنها.
واستمرت المواكب التى اعتادت الوقوف بباب الخيزران فى التوافد عليها، واستمر أصحاب الحاجات يطرقون بابها لتتوسط لهم بنفوذها وكلمتها المسموعة، فلجأت الخيزران لابنها تكلمه فى قضاء بعض الأمور فرفض، فقالت له: إنى ضمنت هذه الحاجة لعبد الله بن مالك أحد قواد الهادي، فغضب الهادى وقال: ويل له .. والله لا أقضيها له، فقالت: إذن والله لا أسألك حاجة أبدا، فقال : إذن والله لا أبالى، فقامت عنه غاضبة ولكنه استوقفها وصرخ فيها قائلا: والله لئن بلغنى أنه وقف أحد ببابك لأضربن عنقه ولأقبضن ماله، فمن شاء فليلزم ذلك، ما هذه المواكب التى تغدو وتروح إلى بابك فى كل يوم؟
أما لك مغزل يشغلك؟ أو مصحف يذكّرك أو بيت يصونك؟
ثم إياك وإياك إن فتحت بابك لمسلم أو ذمى، فانصرفت عنه مذهولة من قسوة كلمات ابنها وما تعلم كيف تسير، وقاطعته بعدها فلم تكلمه.
وفي مجلس له مع قادته وكبار رجال دولته قال لهم: هل يحب أحدكم أن تذكر أمه في المجالس قالوا: لا يا أمير المؤمنين لا أحد منا يحب ذلك ،فقال: فمابالكم تقفون علي باب أمي وتذكرونها .
فعلموا أن الوضع أصبح مختلفا وأن طرق أبواب الخيزران سيفتح عليهم أبواب جحيم إبنها الخليفة.
وأصبح قصر الخيزران شبه مهجور بعد أن انقطعت عنه المواكب والوفود خوفا من بطش ابنها الهادي، وكان ذلك بمثابة موت بالبطيء بالنسبة للخيزران، تلك السيدة التي ذاقت حلاوة السلطان والأمر والنهي، منذ نهاية عهد زوجها المهدي وبضعة شهور من خلافة ابنها الهادي.
لكن الخليفة الشاب لم يعلن الحرب علي أمه فقط بل أعلنها علي أخيه وولي عهده هارون الرشيد مصمما علي خلعه مهما كان الثمن !
فماذا فعل؟ وماذا كان رد فعل الرشيد؟
وهل وقفت أمهما موقف المتفرج في هذا الصراع الملتهب بين ابنها الخليفة المتربص، وإبنها الآخر الرشيد الحبيب إلي قلبها ؟
سنجيب في الحلقة المقبلة إن شاء الله