تحقيقات وتقاريرعام

صلاح رشاد .. يكتب: الملك العضوض والأثمان الباهظة (48)

نصيحة يحيي البرمكي للهادي

حاول يحيي البرمكي أن يلعب علي وتر حساس ليمنع الهادي من خلع أخيه هارون، فقال له: يا أمير المؤمنين أرأيت إن كان الأمر الذي لا تبلغه، ونسأل الله أن يقدمنا قبله، (يعني موت الهادي) أتظن الناس يسلمون الخلافة لابنك جعفر، وهو لم يبلغ الحلم أو يرضون به لصلاتهم، وحجهم، وغزوهم؟ قال: ما أظن ذلك! قال: يا أمير المؤمنين! أفتأمن أن يسمو إليها أكابر أهلك، مثل فلان، ويطمع فيها غيرهم، فتخرج الخلافة من ولد أبيك؟

ألم نقل إن يحي البرمكي كان داهية محنكا ولديه قدرة كبيرة علي الإقناع، لقد لمس وترا حساسا، وذكرنا بالخليفة العباسي الأول أبي العباس السفاح الذي عندما أراد أن يفاضل بين أخيه وعمه حسم الأمر سريعا واختار أخاه أبا جعفر لولاية عهده لتظل الخلافة في بيت أبيهم.

هذا الوتر لعب عليه جيدا يحيي البرمكي وواصل الكلام للهادي قائلا: والله لو أن هذا الأمر لم يعقده أبوك المهدي لأخيك هارون، لكان ينبغي أن تعقده أنت له، فكيف بأن تحله عنه وقد عقده المهدي له! ولكني أرى أن تقر الأمر على أخيك، فإذا بلغ ابنك جعفر مبلغ الشباب أتيته بالرشيد، فخلع نفسه له وبايعه فقبل قوله، وقال: نبهتني على أمر لم أنتبه له .. وأطلقه.

طبعا كلام يحيي البرمكي كان منطقيا ومقنعا، لكن قواد الهادي الذين أيدوه في خلع الرشيد من أمثال عبدالله بن مالك ويزيد بن مزيد وعلي بن عيسي بن ماهان كانوا يواصلون الإلحاح عليه، ويبدو أنهم كانوا متخوفين من وصول الرشيد للخلافة بعد ذلك فينتقم منهم، لأنهم كانوا يحرضون أخاه علي خلعه، فوجدوا أن الأفضل هو قطع الطريق علي الرشيد من البداية، إضافة إلي أن ذلك هو هدف الهادي وشغله الشاغل.

أرسل الهادي إلى الرشيد وضيق عليه، فقال يحيى للرشيد: استأذنه في الصيد، فإذا خرجت فأبعد، ودافع الأيام! ولسان حاله يقول الآية الكريمة (لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا).

ففعل الرشيد وأستأذن من أخيه فأذن له، فمضى إلى قصر بني مقاتل (منزل بين العراق والشام )، فأقام أربعين يوما فأنكر الهادي أمره، وخافه، فكتب إليه أن يعود، فتعلل عليه، فأظهر الهادي شتمه، وبسط مواليه وقواده ألسنتهم في الرشيد؛ فلما طال الأمر عاد هارون الرشيد، و كان الهادي في أول خلافته جلس، وعنده نفر من قواده، وعنده الرشيد، وهو ينظر إليه، ثم قال له: يا هارون! كأني بك وأنت تحدث نفسك بتمام الرؤيا ودون ذلك خرط القتاد.

(يحدثه عن رؤية أبيهما التي رآها)

فقال له هارون: يا موسى إنك إن تجبرت وضعت، وإن تواضعت رفعت، وإن ظلمت قتلت وإن أنصفت سلمت، وإني لأرجو أن يفضي الأمر إلي، فأنصف من ظلمت، وأصل من قطعت، وأجعل أولادك أعلى من أولادي، وأزوجهم بناتي، وأبلغ ما تحب من حق أبينا الإمام المهدي.

فقال له الهادي: ذلك الظن بك يا هارون، ادن مني! فدنا منه، وقبل يده، ثم أراد العودة إلى مكانه، فقال الهادي: لا والشيخ الجليل، والملك النبيل، أعني المنصور، لا جلست إلا معي، فأجلسه في صدر مجلسه، ثم أمر أن يحمل إليه مليون دينار، وأن يحمل إليه نصف الخراج، وقال لإبراهيم الحراني خازن بيت المال: اعرض عليه ما في الخزائن من مالنا وما أخذ من أهل بيت اللعنة، يعني بني أمية، فيأخذ منه ما أراد، ففعل ذلك، فقام عنه.

وقيل إن الهادي خرج إلى الموصل، فمرض بها واشتد مرضه، وانصرف، وكتب إلى جميع عماله شرقاً وغرباً بالقدوم إليه، فلما اشتد مرضه أجمع القواد الذين كانوا بايعوا جعفر بن الهادي علي أن يقتلوا يحيى بن خالد البرمكي، وقالوا: إن صار الأمر إلي هارون قتلنا وعزموا على ذلك، ثم قالوا: لعل الهادي يفيق، فما عذرنا عنده؟

فأمسكوا عن ذلك ولما زادت علة الهادي أرسلت أمه الخيزران إلى يحيى تأمره بالاستعداد، فأحضر يحيى كتابا فكتبوا الكتب من الرشيد إلى العمال بوفاة الهادي، وأنه قد ولاهم ما كان، فلما مات الهادي سيرت الكتب.

وقيل إن يحيى كان محبوساً.. وكان الهادي قد عزم على قتله تلك الليلة، ولما مات الهادي قالت الخيزران: قد كنا نتحدث أنه يموت في هذه الليلة خليفة، ويملك خليفة، ويولد خليفة، فمات الهادي، وتولي الرشيد، وولد المأمون، وكانت الخيزران قد أخذت العلم من الإمام الأوزاعي، وكان موت الهادي بعيساباذ.

لكن موت الهادي كان أيضا غامضا وحمل علامات استفهام كثيرة، وهناك روايات تتهم الخيزران بقتل ابنها الأكبر.

قاتل الله السلطة التي تفعل الأفاعيل بالانسان فتحوله إلي وحش كاسر لا يبالي بارتكاب جرائم شنعاء حتي في حق أقرب الأقربين إليه من أجل ملك لايدوم .

ونكمل في الحلقة المقبلة إن شاء الله .

Follow us on Google News Button

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى