صلاح رشاد .. يكتب: طاهر يبرئ ساحته في رسالة للمأمون
من يحب طاهر بن الحسين ومن يبغضه لا يستطيع أن ينكر أن الله عز وجل قد جعله سببا في إقامة دولة المأمون، مثلما كان أبو مسلم الخراساني سببا في إقامة دولة بني العباس وقال طاهر مفتخرا بنفسه وبما قدمه للمأمون:
ملكت الناس قسرا واقتدارا .. وقتلت الجبابرة الكبارا
ووجهت الخلافة نحو مرو … إلى المأمون تبتدر ابتدارا
ولم يغب عن طاهر أن قتله للأمين سيثير ردود أفعال غاضبة حتي عند المأمون نفسه، لأن الأمين في النهاية أخوه ومن أمس الناس به رحما لذلك حرص علي أن يوجه كتابا (رسالة ) للمأمون يشرح فيها تفاصيل حصاره لبغداد وسبب قتله للأمين.
وذكر الإمام الحافظ العلامة أبو الحسن المدائني في كتابه “تاريخ بغداد” مضمون رسالة طاهر للمأمون بعد انتصاره وقتله للأمين.
جاء في رسالة طاهر : الحمد لله المتعالي ذي العزة والجلال، والملك والسلطان، الذي إذا أراد أمرا فإنما يقول له كن فيكون، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم.
كان فيما قدر الله فأحكم، ودبر فأبرم، انتكاث المخلوع ببيعته، وانتقاضه بعهده، وقضاؤه عليه القتل بما كسبت يداه وما الله بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ، وقد كتبت إلى أمير المؤمنين- أطال الله بقاءه- في إحاطة جند الله بمدينة بغداد وقصر الخلد، وقد تحفظنا علي المخلوع (يقصد الأمين) ، تخوفا من أن يسلك مسلكا يجد به السبيل إلى إثاره فتنه، أو يهيج قتالا بعد أن حصره الله عز وجل وخذله، ومتابعة الرسل بما يعرض عليه هرثمة بْن أعين مولى أمير المؤمنين، ويسألني من تخلية الطريق له في الخروج إليه واجتماعي وهرثمة بْن أعين، لنتناظر في ذلك، وكراهتي ما أحدث وراءه من أمره بعد أن خذله الله، وقطع رجاءه من كل حيلة، حتى هم به خدمه وأشياعه من أهل المدينة ومن نجا معه، وتحزبوا على الوثوب به للدفع عن أنفسهم والنجاة بها، وغير ذلك مما فسرت لأمير المؤمنين أطال الله بقاءه مما أرجو أن يكون قد أتاه.
وإني أخبر أمير المؤمنين أني ترويت فيما دبر هرثمة مولى أمير المؤمنين في أمر المخلوع، وما عرض عليه وأجابه إليه، فوجدت الفتنة تزداد في تخلصه من موضعه الذي قد أنزله الله فيه بالذلة والصغار وصيره فيه إلى الضيق والحصار، ولا يزيد أهل التربص في الأطراف إلا طمعا وانتشارا، وأعلمت ذلك هرثمة، وكراهتي ما أطمعه فيه وأجابه إليه، فذكر أنه لا يرى الرجوع عما أعطاه، فصادرته – بعد يأس من انصرافه- عن رأيه، على أن يقدم المخلوع رداء رسول الله صلي الله عليه وسلم وسيفه وقضيبه قبل خروجه، ثم أخلى له طريق الخروج إليه، كراهة أن يكون بيني وبينه اختلاف نصير منه إلى أمر يطمع الأعداء فينا، أو فراق القلوب بخلاف ما نحن عليه من الائتلاف والاتفاق على ذلك، فتوجهت في خاصة ثقاتي الذين اعتمدت عليهم، وأثق بهم، في صدق البأس، وصحة المناصحة، حتى طالعت جميع أمر كل من كنت وكلت بالمدينة وقصر الخلد برا وبحرا، والتقدم إليهم في التحفظ والتيقظ والحراسة والحذر، وكنت أعددت سفنا لوقت ميعادي بيني وبين هرثمة، فنزلتها في عدة ممن كان ركب معي من خاصة ثقاتي، وأقبل هرثمة معدا مستعدا، وقد خاتلني (خدعني) بالرسالة إلى المخلوع إلى أن يخرج إليه إذا وافى المشرعة، ليحمله قبل أن أعلم، أو يبعث إلي بالرداء والسيف والقضيب، على ما كان فارقني عليه من ذلك، فلما وافى المخلوع نهض إليه رجالي وكنت أمرتهم بألا يسمحوا بعبور أحد إلا بأمري فبادرهم نحو المشرعة، وقرب هرثمة إليه السفينة، فسبق الناكث أصحابي إليها، وتأخر كوثر غلام المخلوع، فظفر به قريش مولاي، ومعه الرداء والقضيب والسيف، فأخذه وما معه، فنفر أصحاب المخلوع عند ما رأوا من إرادة أصحابي منع مخلوعهم من الخروج، فبادر بعضهم سفينة هرثمة، فتكفأت بهم حتى أغرقت في الماء، فانصرف بعضهم إلى المدينة، ورمى المخلوع عند ذلك بنفسه من السفينة في دجلة متخلصا إلى الشط، نادما على ما كان من خروجه، ناقضا للعهد، داعيا بشعاره، فابتدره عدة من أوليائي، فأخذوه عنوة قهرا بلا عهد ولا عقد، فدعا بشعاره، وعاد في نكثه، فعرض عليهم مائة حبة، ذكر أن قيمة كل حبة مائة ألف درهم، فأبوا إلا الوفاء لخليفتهم أبقاه الله، وصيانة لدينهم، وإيثارا للحق الواجب عليهم، فتعلقوا به، قد أسلمه الله وأفرده، كل يرغبه، ويريد أن يفوز بالحظوة عندي دون صاحبه، حتى اضطربوا فيما بينهم، وتناولوه بأسيافهم وأتاني الخبر بذلك، فأمرت بحمل رأسه إلي، فلما أتيت به تقدمت إلى من كنت وكلت بالمدينة وما حواليها في لزوم مواضعهم، والاحتفاظ بما يليهم، إلى أن يأتيهم أمري.
ثم انصرفت فأعظم الله لأمير المؤمنين الصنع والفتح عليه وعلى الإسلام به وفيه.
فلما أصبحت هاج الناس واختلفوا في المخلوع، فمصدق بقتله، ومكذب وشاك وموقن، فرأيت أن أطرح عنهم الشبهة في أمره، فمضيت برأسه، لينظروا إليه فيصح بعينهم، وينقطع بذلك أمل قلوبهم، وغدوت نحو المدينة فاستسلم من فيها، وأعطى أهلها الطاعة، واستقام لأمير المؤمنين شرق مدينة بغداد وغربها، وقد وضعت الحرب أوزارها وتلافى بالسلام والإسلام أهله، وصيرهم ببركة أمير المؤمنين إلى الأمن والسكون والدعة والاستقامة والاغتباط، والصنع من الله جل وعز، والحمد لله على ذلك.
فكتبت إلى أمير المؤمنين حفظه الله، وليس قبلي داع إلى فتنة، ولا متحرك ولا ساع في فساد، ولا أحد إلا سامع مطيع، قد أذاقه الله حلاوة أمير المؤمنين ودعة ولايته، فهو يتقلب في ظلها، يغدو في متجره ويروح في معايشه، والله ولى ذلك، والمتمم له.
وأنا أسال الله أن تهني أمير المؤمنين نعمته، ويتابع له فيها مزيده ويوزعه عليها شكره، حتى يجمع الله له خير الدنيا والآخرة، ولأوليائه وأنصار حقه ولجماعة المسلمين ببركته وبركة ولايته ويمن خلافته، إنه ولي ذلك، إنه سميع لطيف لما يشاء.
لكن مقتل الأمين ظل يؤرق المأمون ويدمي قلبه كلما تذكره خاصة أن أميرة عباسية جليلة القدر عظيمة المكانة، أصابتها في مقتل نهاية الأمين المأساوية فحرضت المأمون علي طاهر في أبيات باكية موجعة.
نحكي مأساة هذه الأميرة في الحلقة المقبلة إن شاء الله .