تحقيقات وتقارير

صلاح رشاد .. يكتب: مقتل الخليفة «الأمين»

وقع الأمين في قبضة رجال طاهر، وكان شارد الذهن خائفا وجلا، فنظر إلي أحمد بن سلام صاحب المظالم، ونترك هذا الرجل يصف لنا كل الأحداث لأنه كان شاهد عيان علي اللحظات الأخيرة في حياة محمد الأمين بن هارون الرشيد .

يقول ابن سلام : قال لي الأمين: أيّهم أنت؟» قلت: «أنا مولاك يا سيّدى. قال: «وأىّ الموالي؟» قلت: «أحمد بن سلام صاحب المظالم.» قال: «أعرفك بغير هذا، كنت تأتينى وتلطفنى كثيرا، لست مولاي، ولكنّك أخى.

(مسكين ابن آدم يطغيه ماله أو نفوذه أو سلطانه وعند الموت ينسي كل ذلك ويصبح إنسانا متواضعا هينا لينا ضعيفا )

ثمّ قال الأمين: يا أحمد، قلت: لبّيك يا سيّدى.» قال: «أدن منّى وضمّنى إليك، فإنّى أجد وحشة شديدة، قال: فضممته إلىّ، فإذا قلبه يخفق حتّى يكاد يخرج من صدره، فلم أزل أضمّه إلىّ وأسكّنه.: ثمّ قال لى:

يا أحمد ما فعل أخى؟» يقصد المأمون قلت: «هو حىّ.» قال: «قبّح الله صاحب بريدهم ما أكذبه! كان يقول: قد مات، شبه المعتذر من محاربته.

قلت: «يا سبحان الله! ففي أىّ شيء دفعنا إذا، (لسان حال صاحب المظالم يقول للأمين تسأل الآن عن أخيك وأنت الذي غدرت به وأرسلت إليه جيوشك حتي انهزمت وأصبحت المطلوب).

ثم قال أحمد: بل قبّح الله وزراءك، قال الأمين: لا تقل لوزرائى إلّا خيرا، فما لهم ذنب، ولست بأوّل من طلب أمرا فلم يقدر عليه.

قَالَ: يا أحمد، ما تراهم يصنعون بي؟ أتراهم يقتلوني أو يفون لي بأيمانهم؟ قَالَ: بل يفون لك يا سيدي

فبينما نحن كذلك، إذ دق باب الدار، ففتح، فدخل علينا رجل عليه سلاحه، هو محمد بْن حميد الطاهري، قَالَ: فعلمت أن الرجل مقتول.

قَالَ: وكان بقي علي من صلاتي الوتر، فخفت أن أقتل معه ولم أوتر، قَالَ:

فقمت أوتر، (آه من لحظات الموت، تجعل المسلم يفر من كل شيء إلي الله، فلماذا الغفلة عن الله ونسيانه قبل هذه اللحظات المصيرية)

ما زلنا نعيش تفاصيل نهاية الأمين المأساوية لكن هذه المرة كما جاءت في تاريخ الطبري.

قال الأمين لأحمد قبل أن يصلي الوتر: لا تتباعد مني، وصل إلى جانبي، أجد وحشة شديدة، قَالَ: فاقتربت منه، فلما انتصف الليل أو قارب، سمعت حركة الخيل، ودق الباب، ففتح، فدخل الدار قوم من العجم بأيديهم السيوف مسللة، فلما رآهم قام قائما، وقال: «إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ» ذهبت والله نفسي في سبيل الله! أما من حيلة! أما من مغيث! أما من أحد من الأبناء! (يقصد ابناء الشيعة العباسية بخراسان )

وجاءوا حتى قاموا على باب البيت الذي نحن فيه، فأحجموا عن الدخول، وجعل بعضهم يقول لبعض: تقدم، ويدفع بعضهم بعضا، وقام الأمين فأخذ بيده وسادة، وجعل يقول: ويحكم! إني ابن عم رسول الله صلي الله عليه وسلم، أنا ابن هارون، وأنا أخو المأمون، الله الله في دمي! قَالَ: فدخل عليه رجل منهم يقال له خمارويه- غلام لقريش الدنداني مولى طاهر بن الحسين – فضربه بالسيف ضربة وقعت على مقدم رأسه، وضرب الأمين وجهه بالوسادة التي كانت في يده، واتكأ عليه ليأخذ السيف من يده فصاح خمارويه: قتلني قتلني- بالفارسية فدخل منهم جماعة، فنخسه واحد منهم بالسيف في خاصرته، وركبوه فذبحوه ذبحا من قفاه، وأخذوا رأسه، فمضوا به إلى طاهر، وتركوا جثته.

قَالَ: ولما كان آخر الليل جاءوا إلى جثته ، وحملوها.

قَالَ: فأصبحت فقيل لي: هات العشرة آلاف درهم وإلا ضربنا عنقك.

قَالَ: فبعثت إلى وكيلي فأتاني، فأمرته فأتاني بها، فدفعتها إليه ونجا أحمد بن اسماعيل من القتل.

(نتوقف قليلا عند كلمات محمد الأمين قبل مقتله: «ذهبت نفسي في سبيل الله»، ونحن نتساءل أي سبيل لله يا ابن هارون وأنت من بغيت وغدرت بأخيك ونكثت عهد أبيك، ثم تقول أنا ابن عم رسول الله وكنت أبعد ما يكون عن نهج وسمت وهدي وأخلاق وشمائل وفضائل ابن عمك العظيم محمد صلوات ربي وسلامه عليه.

وصف الإمام ابن كثير محمد الأمين بأنه كان شجاعا فصيحا بليغا لكنه كان كثير التبذير سيء التدبير أرعن لا يصلح للإمارة .

وهكذا كان الأمين ضحية الفتنة الثالثة في تاريخ الإسلام، الفتنة الأولي راح ضحيتها الخليفة الشهيد المظلوم عثمان بن عفان رضي الله عنه، والفتنة الثانية تسببت في مقتل عبد الله بن الزبير عندما حدث فراغ في السلطة بعد هلاك يزيد بن معاوية، وبويع لابن الزبير في معظم ولايات الدولة الإسلامية وكاد الأمر يستقر له تماما لولا مبايعة بعض أهل الشام لمروان بن الحكم الذي دخل في صراع علي السلطة مع عبد الله بن الزبير وأكمل الصراع من بعده ولده عبد الملك الذي نجح في قتل ابن الزبير علي يد طاغيته الحجاج بن يوسف.

وكان محمد الأمين ضحية الفتنة الثالثة، لكن الاختلاف هنا أن الأمين هو سبب هذه الفتنة، ويتحمل أمام الله مسئولية الدماء الغزيرة التي سفكت وآلاف الأسر التي شردت والبيوت التي هدمت والخراب الذي حل في ديار المسلمين، لأنه خلع أخاه عبد الله المأمون من ولاية العهد وضرب بكل العهود التي أخذها عليه أبوه هارون الرشيد عرض الحائط ، وولي ابنه الطفل موسي ولاية العهد، فلا ذاق الأمين حلاوة الملك والسلطان ولا نجحت خطته في اقصاء أخيه من ولاية العهد ودفع الثمن غاليا فقتل شر قتلة وهو في عز شبابه فلم يكن قد تجاوز الثامنة والعشرين من عمره.

لكن لماذا لم يكن طاهر حريصا علي إبقاء حياة الأمين ؟

وهل أمر المأمون طاهرا أن يقتل أخاه الأمين ؟

نجيب في الحلقة المقبلة إن شاء الله.

Follow us on Google News Button

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى