من روائع محمد رجب عباس: «أعيان حارة أبو علو»
لولي
في صبيحة يوم شتوي من أيام شهر يناير، تضع أمي كسرتي خبز إحداهما فيها شريحة جبن أبيض والثانية فيها عجوة محمرة في السمن مع البيض وتلفهما في ورقة جريدة وتناولني إياها، أضعهما حشرا في مخلتي التيل، وتمد يدها بتعريفة خمسة مليمات نصف قرش صاغ، وتصلح من ياقتي وتفرد المريلة علي جسدي، وتقول: خلي بالك من نفسك.
أومئ لها برأسي، أخرج من باب المنزل إلي الشارع، من الدفء إلي البرودة، والشارع بلاطاته البازلتية غطتها وحول طينية لزجة، أخشي أن أنزلق بسببها وأقع، أتجه عبر بروزات طينية جافة بجوار الحوائط محاو التوازن ، صعدت الحارة من أسفل الكوم الي أعلي.
وعلي ناصية دار أم أنور استدرت وأنا أتوازن في سيري، وعندما عبرت أمام باب دارها الموارب خرجت كلبتها الرمادية قصيرة الرجل تنبح تهبهب علي وورائي، لم أتوقف مما دفعها للعواء والنباح ورائي خطوة بخطوة، لم تتراجع .. وكنت أستشعر أنفاسها في ساقي، وفمها المشلوح عن أسنان جاهزة لتنغرس في ساقي.
خرج علي نباحها كلب دار أبو جاد، ينبح علي «الف حين» وأنا أحاول أن أظهر لهما إني خائف وأيضا أتوازن حتي أنزلق في الوحل، ملت الكلبة الرمادية قصيرة الرجل من متابعتي، بينما كلب «الف حين» عاد إلي داخل الزريبة ، لكن قلبي من سرعة دقاته يكاد ينخلع من صدري، ودمي جف في عروقي ، التقيت بصديقي إبراهيم وهو يخرج من حارة عبدالسلام، حياني فبادلته التحية، وسرت معه للمدرسة نكمل حارة أبوعلو لآخرها، ثم ننتقل إلي منزل الداهش الذي يفضي إلى مسجد الجيشي.
قلت لصديقي : تصور كلبة «أم أنور» كادت تهبرني .. وتأكل قطعة من ساقي. رد : أكيد هي تنوي علي ذلك . اندهشت : كانت ستعقرني. رد في ثقة : أخر يوم في حياتها اليوم. عقبت ساخرا : كان سيبقي اليوم هو آخر يوم في حياتي أنا . قال : أخر النهار عند العصر نتقابل ونروح للولي. كنا نغادر شارع الجيشي إلي شارع المقريزي ثم مدرستنا بني الجيشي، دخلنا من بوابتها الحديدية مع التلاميذ الداخلين .
في الظهيرة نخرج من بوابة المدرسة وقد خلعنا أحزمة بنطلوناتنا ولففناها علي أيدينا حتي إذا قابلنا تلاميذ مدرسة أبو بكر التي بعدنا واحتكوا بنا نضربهم بأحزمة الجلدية، سمعنا هتافهم وهم داخلون : يابتوع الصبح ياحرامية .. يابتوع الظهر يا أفندية .. وهنا نرد عليهم بهتاف عكسي : يابتوع الظهر ياحرامية .. يابتوع الصبح يا أفندية ، ونبدأ في ضربهم بالأحزمة ونتفادي أحزمتهم حتي نعبرهم ونتجاوزهم مهرولين، ضحكنا أنا وإبراهيم الذي نبهني: لا تنس عند العصر نروح إلي لولي .. مر علي .. أومأت برأسي له، رجعت المنزل كانت أمي قد جهزت حلة صغيرة ممتلئة بأصابع محشي الكرنب، وعندما دخلت حييتها وهي تلف أصابع محشي الكرنب في حلة كبيرة للعشاء وعلي النار حلة الكمونية، قلت ألمي : كلبة أم أنور كانت ستعضني وتعقرني الصبح.
قالت أمي : هذا زائد عن حده.
ثم قالت أمي ختي : أغرفي لأخيك محشي ليتغدي .. ويحل واجباته ، وبعد ان انتعشت وسري دفء أصابع المحشي في جسدي، قمت أحل واجباتي ، وعندما أذن الشيخ رفعت أذان العصر في الراديو، لممت الكراسات والكتب ورتبتها علي ترابيزة جانبية، وتسحبت خارجا .. فوجدت إبراهيم علي ناصية الحارة ينتظرني .. وكانت كلبة أم أنور تعوي وتنبح علي كل من يمر من باب بيتها.
قال لي إبراهيم : وقعتها سودة .. لولي سيؤدبها .. سرت معه أتساءل عن هذا اللولي؟ .. وعند بيت النجار فوق الكوم أعلي حارة أبو علو نقف، ينادي إبراهيم : يا لولي .. يا لولي .
يطل علينا لولي من الشباك ، يرد: أه ازيكم .
نرد السلام ، قلت لإبراهيم: هذا محمد زميلنا في الفصل المجاور خامسة ثاني ، وافقني محمد: هو لولي ،قال له إبراهيم : تعال إنزل .. نزل ، سلم علينا ، قال له إبراهيم : كلبة أم أنور انسعرت علينا تعضنا .
قال لولي : وقعة أمها هباب .. انتظروني .. دخل إلي داخل بيتهم وعاد ومعه لفة حبل ليف، قال : تعالوا معي .. إلي بيت أم أنور .. همست لإبراهيم : تصور كنت فاكر لولي واحد تاني .
أجاب : هونفسه محمد . سالت : في الفصل المجاور لنا ؟ رد : هو نفسه . سالت : سيضرب كلبة أم أنور ؟ رد : أكيد .. اصبر . وصلنا بيت أم أنور عندما رأتنا الكلبة لم تنبح علينا كعادتها ، استدارت وهربت مسرعة داخل البيت.
اندهشت و ضحكت ثم قلت : الكلبة خافت منا . رد إبراهيم : خافت منه .. من لولي. دخل لولي بيت أم أنور ، أمرنا : سدوا الباب علي .. ولا تفتحوه .
أومأنا برؤوسنا بالموافقة ، وأنا أتعجب أنه لم يقل العكس أي إذا طلبت منكم فتح الباب افتحوا بسرعة، لولي قوي، وبعد صمت وخوفي أن تعقره الكلبة بسببي، سمعت نباحاً متحشرجاً للكلبة يقترب، يشبه النحيب، قال لولي : افتحوا الباب .. خفت من الكلبة أن تخرج وتعقرنا، فتحنا الباب ، وجدنا لولي وقد ربط الكلبة من عنقها بالحبل الليف، تراجعنا للخلف ، واندهشت !
قال : هيا بنا الي ماكينة أبوحسن .
مع نباح وعويل الكلبة تجمع الحارة حولنا، نظرات التشفي في الكلبة الشرسة ارتسمت في عيونهم ، حفزهم لولي: منها بكرة بقرشين .
رددنا وراءه، ردد : رايحين بها فين يا أولاد؟
نرد : علي السلخانة .. وأولاد يقذفونها بقطع الطوب والحجارة ، وهي تصرخ من الألم ، تحاول التملص والخروج برقبتها من الحبل، ترفض السير، يجرجرها علي بلاطات الشارع ، نصل الي ماكينة طحين زكي أبوحسن المهجورة ، بناء سميك من طوب الحجر الجيري، بنوافذ وسقف ، ونشع الماء الجوفي المنطقة صنع فيها بركة من الوحل، والأولاد يتواصل هتافهم .. للسلخانة ، ويقذفونها بالطوب ، وقف بها لولي علي شباك الماكينة الكبير، ثم أرجحها في الهواء .. كأنها مدلاة من المشنقة، ثم طوحها باقصي قوة داخل الماكينة وسط الوحل، فغطست ثم قبت برأسها الرمادي الذي صار أسود، وهي تئن وتصرخ ، وكلما اقتربت من نافذه الماكينة، يقذفها الأولاد في رأسها بالحجارة، واستمر القذف حتي فقدت قدرتها علي الطفو .. وغرقت في الوحول ، صرخ الأولاد : هييبه .
ورجعنا نجري الي الحارة ، سمعنا صوت عالياً، نظرنا فإذا أم أنور علي ناصية دارها تصيح : وقعتكم سودة يا أولاد الجزم .. الكلبة رحتم بها فين .. توارينا عنها حتي لا ترانا ، استرسلت : أنا عارفاكم واحد واحد .. ولكم أباء لي كلام معهم، قلبكم ما فيه رحمة .. من يرضع أولادها الصغار الآن ؟
وكأنها ضربتني علي رأسي بحجرة .